الإثنين 2021/09/06

آخر تحديث: 12:52 (بيروت)

يحيى يخلف.. عشر روايات ورواية

الإثنين 2021/09/06
يحيى يخلف.. عشر روايات ورواية
increase حجم الخط decrease
يحيى يخلف روائي وقاص فلسطيني ترك بصمة خاصة، ووصل صيته إلى العالم العربي، قبل أن يبلغ فلسطين التي ولد على أرضها العام 1944، على ضفاف بحيرة طبرية، وغادرها طفلاً حين حصل الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين العام 1948.

وليس بغريب أن كل من قرأ الرواية الأولى لهذا الكاتب "نجران تحت الصفر"، التي صدرت في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، كاد أن يذهب به الظن إلى أنه سعودي من صميم البيئة المحلية، لأنه اختار موضوعاً لتلك الرواية هو حياة الناس في مدينة نجران التي تقع في جنوب المملكة، وتتبع تاريخياً لليمن حتى ضمتها السعودية في اتفاقية 1934. وسجل الكاتب في هذا العمل، الذي يعده النقاد من الروايات المتميزة، تفاصيل لا يمكن أن يدرك أبعادها وخفاياها إلا من ولد وعاش في ذلك العالم القصي والمهمش، ورسم شخصيات محلية من بيئة مدينة نجران تتطلب معايشة من قرب، مثل أمير المنطقة، رجال الدين والشرطة، المعارضة، العبيد، وبائعات الهوى، اليامي، أبو شنان صديق اليامي، سميّة التي تعدُّ بمثابة أمٍّ لليامي وأبي شنان، ابن أمينة والسقاء والزبال عباجة وابن عناق والولد عبد المعطي، وأخيرًا مشعان القائد النقابي الذي تحدى الأميركان، وقاد إضرابًا عماليًّا ضدهم حين كان يعمل في شركة آرامكو في الدمام، ما جعله عرضة للتعذيب وللسجن جراء ذلك.

الانطباع عن أن يخلف، هو ابن البيئة السعودية التي كتب عنها بعمق، تبدده الخاتمة التي تتضمن إشارة إلى تجربة يخلف ومعايشته للأحداث وللشخصيات التي شكلت مادة روايته، وبخاصة ذلك الفلسطيني؛ زميله المدرّس كمال الغزاوي، الذي التقاه في جدّة وانتظرا معًا أيامًا بالغة الصعوبة قبل السفر إلى نجران للتدريس في مدارسها.

رواية "نجران تحت الصفر" ليست كبيرة الحجم، ويمكن للقارئ أن يأتي عليها في جلسة واحدة، ويساعد في ذلك أنها مكتوبة بلغة أقرب إلى التسجيلية، متخففة من الحشو البلاغي. سرد حار، قائم على التفاصيل التي تشكل صورة عن البيئة المحلية للمدينة التي عاشت تناقضات المجتمع السعودي في ذلك الزمن، في فترة الستينيات من القرن الماضي، وهي تسجل حادثة إعدام سياسي بالسيف، وتنقل يوميات عالم شبه أسطوري لا يمت بصِلة إلى مناطق السعودية المعروفة وعماراتها العالية وسياراتها وأميراتها. بل "هنا عالم ينتمي إلى القرون الوسطى. التجار والسماسرة وقوات الإمام المرتزقة، والمطاوعة والغلمان والنساء المضطهدات وحارة العبيد". وفي الساحة الواسعة التي تتحول إلى سوق، مرة في الأسبوع، يجري إعدام المحكومين، وجَلد الذين يشربون الكحول، ورجم "النساء الزانيات". وعلى إمتداد "شارع الزيود" تزدهر تجارة الأسلحة، المسدسات والرشاشات والقنابل اليدوية، والمعارك اليومية لا تتوقف بين قوات الإمام والقوات الجمهورية. وكانت نجران في الستينيات مركزًا للتآمر على الثورة اليمنية وللتدخل في شؤون اليمن بعد خلع الإمام البدر. أثناء ذلك؛ كانت الطائرات المصرية المناصرة للثورة تقصف بين الحين والآخر تجمعات المرتزقة وأماكن قياداتهم في نجران وغيرها من المناطق.

تقع الرواية ضمن تصنيف الواقعية السحرية، لكنها كُتبت قبل أن يعرف العالم العربي هذا الصنف من الكتابة مع ترجمة كتّاب أميركا اللاتينية الكبار، مثل غابرييل غارسيا ماركيز وفارغاس يوسا، أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، حينما فاز ماركيز بجائزة نوبل. ولا يمكن تفسير هذا التقاطع الواضح بين رواية يخلف، وأدب أميركا اللاتينية قبل الترجمة، إلا من خلال الكتابة التي جرت بإخلاص شديد للبيئة المحلية، وتصويرها من دون افتعال أو مؤثرات جانبية. ومن هنا يمكن الحكم بلا تردد بأن رواية "نجران تحت الصفر" خلقت اسم كاتبها، وبنت شهرته إلى حد أنها غطت على كل ما كتبه هذا الكاتب بعدها. وهذا أمر ليس بجديد في عالم الكتابة والإعلام، وكثير من الكتاب لديهم أعمال على قدر كبير من الأهمية، لكن القراء يقفون عند عمل واحد لهم، ومن هؤلاء: الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، صنع الله إبراهيم (اللجنة)، زكريا تامر (النمور في اليوم العاشر)، سعيد حورانية (شتاء قاس آخر)، حنا مينة (الشراع والعاصفة)، غوستاف فلوبير (مدام بوفاري)، وتشارلز ديكنز (اوليفر تويست)..إلخ.

وتكمن أهمية "نجران تحت الصفر" في أنها ساهمت في فتح الطريق للكتابة الروائية والقصصية عن منطقة الخليج العربي عموماً والسعودية خصوصاً، فهي التي قدمت تشريحاً غنياً للبيئة المحلية، لفت انتباه كتّاباً كثيرين إلى أهمية المادة المحلية للرواية والفن عموماً. وقبل هذه الرواية لم تكن هناك كتابات على قدر من النضج، تتناول قضايا البيئة المحلية من باب القصة والرواية، واقتصر تقديم الواقع على كتابات الرحالة الأجانب. وجاءت رواية "نجران تحت الصفر" في توقيتها العام 1977 لتلقي الضوء على عينة خاصة من الوضع في السعودية في فترة الستينيات، بما تحمله منطقة نجران من خصوصية، فهي عبارة عن خليط طائفي وقبلي، يتعايش تحت حكم سعودي يقوم على سلطة الأمير والمطاوعة و"جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". ولأنها ذات تركيبة فريدة من نوعها طائفية وقبلية وتاريخية وسياسية بين اليمن والسعودية، فإنها تعيش وضعاً سياسياً متقدماً عن بقية المناطق، يشبه تلك التي ظهر فيها البترول، وساهم في تفجير التناقضات النائمة تحت الرمل، وفتح شهية الأطماع الخارجية، في الوقت الذي أسهم في ولادة معارضة سياسية ضد الحكم السعودي والشركات الأجنبية التي كانت تنهب ثروات المنطقة، وهذا ما برع فيه وشرّحه الروائي السعودي عبد الرحمن منيف في خماسية "مدن الملح" التي ظهر الجزء الأول منها العام 1984.

لم يدّعِ يخلف أنه من أول مَن طرقوا هذا الباب، ولم يسبق للدراسات أن تناولت هذه النقطة، ومن هنا فإن الإشارة إليها هنا يمكن أن تقود إلى قراءة أخرى للكتابة التي شكل الوضع في بلدان الخليج موضوعها، خصوصاً مرحلة الستينيات التي تُعدّ فترة تأسيسية على صعيد السعودية التي شهدت تحولات كبيرة، وأحداثاً شكلت إلى حد كبير الهيئة الحالية للمنطقة، ولا تزال تتدخل في دينامية تشكلاتها.

واصل يخلف مشروعه الروائي والقصصي، وأصدر في العام 1980 رواية "تلك المرأة الوردة"، والتي حافظ فيها على أسلوبه المقتصد جداً في اللغة، لكنه نحا في إتجاه مختلف عن "نجران تحت الصفر". فحلت الشاعرية مكان اللغة التوثيقية والتسجيلية. وكانت "تلك المرأة الوردة" بداية مشروع الكاتب الذي استمر في عشر روايات أخرى، فصلت بينها أزمنة متقاربة، وهذا دليل على أن يخلف الذي أخذ منه العمل السياسي وقتاً كبيراً، لم يهجر الكتابة، لكنه لم يتفرغ لها حتى العام 2012 حين بدأ يقترب من السبعين. ومن دون إصدار حكم قيمة نهائي، فإن قراء يخلف يضعون رواية "نجران تحت الصفر" في مصاف، وبقية أعماله الأخرى (عشر روايات) في مصاف آخر. ويبدو أن الذي مكّن الرواية الأولى هو أسلوبها الواقعي، وعالمها السحري. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها