الإثنين 2021/09/06

آخر تحديث: 13:04 (بيروت)

الانهيار الذي حصل من قبل

الإثنين 2021/09/06
الانهيار الذي حصل من قبل
يتذكر غوري، حرب لبنان الأهلية، وتحديداً مشهد القصف المتجاور مع السهر
increase حجم الخط decrease
انتظار الانهيار مجرد طريقة نكرانية لكونه قد حصل من قبل. هذه أول ملاحظة يمكن استنتاجها من الكتاب الجديد للمحلل النفسي رولان غوري*، الذي صدر عن دار "les liens qui libèrent"، والذي يواظب فيه على رحلته التحليلية خارج مجاله. إذ إن غوري، وعلى طول كتابه، يشدد على كون ذلك الانهيار ليس موضوع ترقب، إنما موضوع إقرار. لكنه، ولكي يصير كذلك، لا بد من أمر معين، مفاده الإقلاع عن الوقوع في الخطاب الذي ينتجه تيار الكولابسولوجيا (collapsologie)، الذي لا يجد ان الانهيار هو الذي سيحدث في اللاحق من السنوات، وهذا، في حين انه واقعة السابق منها. فهذا التيار فعلياً يستند إلى نوع من الإسقاط، اي إسقاط الانهيار، بما هو ماضي وراهن، على المستقبل، وهذا، لسبب محدد، وهو القول إنه لم يقع بعد، بل أنه سيأتي: هرب من الحقيقة بتأجيل كشفها من خلال المواظبة على التفتيش عنها. لكن هذا الهرب ليس إرادياً، أو مخططاً له، إنما هو يقوم بأنه الممكن الوحيد، بمعنى ألا مجال لسواه. في هذه الناحية، يمكن الربط بين ما كان يردده جان بودريار وطرح غوري.

فقد كانت لبودريار مقولة أن العالم قد اكتشفناه. لكننا لم نبدعه لكي يغدو عالمنا، على العكس، فهو بقي بلا إبداع، ولهذا، زواله يسير للغاية. مقولة بودريار هذه تجد صداها في طرح غوري، من باب أنه، هو ايضاً، يشير إلى غياب ذلك الإبداع، ليس للسكن في العالم، لتحويله الى عالمنا، انما، للتمكن من انهياره، الذي كان قد وقع. هذا الإبداع يعني إيداع لغة للحديث عن هذا الانهيار، لغة كان من الممكن لها، وإن كانت موجودة قبله، أن تسبقه. أما بعد حصوله، فمن المتاح لها أن تقوله لكي يستمر، وأن يقيم في المستقبل. غياب هذه اللغة هو ظرف الكولابسولوجيا، ظرف رواج الكارثية، ظرف "النيزكية" (إشارة إلى منتظري النيزك)، وفي الوقت نفسه، هو ظرف اشتغال الانهيار، العيش فيه، واللف والدوران حوله حتى بلوغه كنقطة بداية ونقطة نهاية. 


هكذا انهيار، هو انهيار للغة القديمة التي تركت مكانها لإعادة تدويرها، أو للاشيء. فهي لغة كل ما انهار، الذي يختصره غوري بكونه الإيمانات، وخانات الحكم، وطرق تفكير العالم وتفكير الإنسي، التي شكلت أسس المجتمعات الترمو-صناعية. فكل هذا انهار، وهو، فعلياً، لم ينهَر من تلقائه، إنما حُطّم، استُنزف، أُخذ إلى أوجه، على سبيل الاستفادة منه، مما يضمنه، أي الرسملة، بنسختها النيوليبرالية. غوري، في الواقع، ليس مستلباً بنقد هذه الرسملة، بمعنى أنه لا يكتفي بنقدها، إدانتها، لا يعلق في هذين الفعلين حيالها كما لو أنهما السبيل منها، على العكس، هو يؤكد عليهما، لكي يضعهما خلفه. فالتوقف الكثير عليهما لا يؤدي سوى إلى تقوية موضوعهما. هذا ما يتجنبه غوري على الأغلب، لا سيما أنه، وفي الوقت نفسه، يتمسك بالتقدمية، بالدفاع عنها، بحيث أنه يفصلها عن الرسملة نفسها: تقدمية أخرى لا تعني عبادة التقدم وجعله مرادفاً للإسترباح الذي لا روح فيه، أو للعلموية (scientisme)، التي استقرت على كونها ديناً حديثاً.

تقدمية غوري هي تقدمية مختلفة، ترتكز على أمرين. الأول، هو ما يمكن تسميته بحب الحاضر، وليس نبذه بحجة انه مكمن الانهيار. إنما، وعلى العكس، محاولة استخلاص ما يمكن أن يحمل من إمكانات فيه. الثاني، هو ربط التقدم بالصلة الاجتماعية، فما انهار هو هذه الصلة، وبالتالي، اي تقدم لا بد من أن ينطلق من بنائها، وأن تكون أولويته.

بطريقة من الطرق، غوري، وبالتعليق على التقنية وعلى التواصل، يجد أنهما لم يؤديا إلى تلك الصلة، بل إلى ما يشبه ردم موتها. لكن هذا لا يعني ان غوري تكنوفوب أو تواصلوفوب (رهاب التقنية والتواصل)، بل إن نظرته إلى التقنيات وتواصلها يذكر بالتعامل الفارماكولوجي معها، اي الاتكاء على دوائيتها مع التنبه إلى دائيتها. فيشير غوري إلى أهمية التقدم التقني، وفي الوقت نفسه، يستند إلى حجة سوء الاستخدام، ليشير إلى أنه لا يفضي الى تلك الصلة، إنما إلى وضع أطرافها، المجتمع ككل، تحت حكم الخوارزميات والبرمجيات.

فعلياً، إشارة غوري المزدوجة هذه، حيال التقدم التقني، تحيل إلى شيء ما متعلق بتاريخه، لا مناص من استدعائه، حتى لو لم يُقدِم غوري على ذلك. فذلك التقدم له تاريخ رسمي يتعلق بالتطور، وبكل أساطيره، من قبيل السرعة، والتنفس، والإنتاج، وله تواريخ غير رسمية، لا تربطه بالتطور بقدر ما تربطه بالانعتاق. مباحث حول تاريخ التقنيات، كتلك التي واظب الراحل ميشيل سير، عليها، من خلال التنقيب عن علوم قُضي عليها مثلما قُضي على تقنياتها، تندرج في سياق رواية تلك التواريخ، التي تعين على تشييد نظرة أخرى، بعد حب وكره التقنية، وبعد حب وكره علمها، بحيث تربطها بسياق بعيد من سياق كونها من مواليد التطور.

في هذه الجهة، يدرك غوري ان الانصراف من الانهيار لا يحصل من دون أن يكون، وعلى جانب منه، ابستمولوجياً، متعلقاً بالمعارف والعلوم المسيطرة، بمعنى تحريرها، إذا صح التعبير، من ربطها، من كونها مفيدة للرسملة، مفيدة كوسائل موضوعة في خدمتها، في خدمة تطبيق اساطيرها، الذي يمدها بطابع جبروتي أو إلهي. ابستمولوجية الانصراف من الانهيار تعني، وبشكل من الاشكال، إطاحة هذا الطابع لتلك المعارف والعلوم، التي، وأمام فيروس كالكورونا، أو كل المشكلات السوسيو-اكولوجية قبله، بدت بلا اي استعداد لأي حادث وحدث. إذ أنها، في الواقع، تحمل الانهيار فيها، وهو، حين يحصل، أو بالأحرى حين حصل، أشار إلى أنها كانت عليه أيضاً، كما لو انها علومه ومعارفه.

من هنا، الكولابسولوجيا هي اقرب إلى كونها توبة هذه العلوم والمعارف عن كونها "قطمت" الانهيار، أو، أنها، وللدقة، مسعاها لتظهير ذاتها كما لو أنها على توقع للانهيار المقبل: تعويضها عما لم تفعله، وبالطبع، لن تفعله، ليس لأن الانهيار حاصل سلفاً، إنما لأنها على علاقة متينة بما أدى اليه. بالفضل عن ذلك، الكولابسولوجيا، وبما هي قائمة بذاتها، قد أدت إلى إنتاج وضعية، دعا إليها جان بيار دوبي ذات يوم، تحت اسم "الكارثية المتنورة"، التي تفيد بأخذ كل الاحتياطات لجعل الانهيار بعيداً، ولا يلوح في الأفق. لكن الكارثية المتنورة ليست سوى تسليم بخطاب الانهيار المقبل، بالتالي، وقوع في خشية دائمة من مجيئه، يعني العيش كأنه هنا وآت: "الخشية من الانهيار تبين الانجذاب إلى الوضع السيء، [بمعنى] استدعائه لطرده". كما لو ان الكارثية المتنورة هي وهب الحاضر والمستقبل للانهيار. أما، الماضي، حيث فعلاً يقيم بحسب غوري، فلا التفاتة اليه، بل إشاحة عنه. 
يخلص غوري إلى الاستفهام إن كان لا يزال هناك مجال للإقدام على قرار بعدما حصل الانهيار. والقرار هنا يعيده غوري إلى أصله الاتيمولوجي، من "كريزيس"، أزمة، بمعنى أن حتى الأزمة في هذا السياق ليست ممكنة، بل إنها ترف. يمكن الإضافة في هذه الناحية، أن الحديث المتكرر حول الأزمة، أو الأزمتية، هو ادعاء لهذا الترف، ادعاء بأن الانهيار مجرد عطل، ويمكن تجنبه، يعني أنه ادعاء لامكان السيطرة عليه. غير أن هذا الادعاء لا يغير في أمر الانهيار أي شيء، لا بل يبدو مجرد فلترة له بعد جعله من المستقبل، وهذا، في حين انه يتمدد من الماضي.

الانهيار حصل، ويمكن للعالم أن يستمر في عيشه كأنه ينتظره، أو كأنه يتحضر له، كما يمكن أن يستمر كأنه ليس هنا. في هذه الجهة، يتذكر غوري في نهاية كتابه، حرب لبنان الأهلية، وتحديداً، مشهداً معيناً فيها: قصف يتجاور مع السهر. سهر يقول إن القصف لا يحصل، وأنه يحصل ولا يأبه، وأنه يتوازى معه والإثنان لا يتناقضان، بل يستكملان بعضهما البعض!

(*) Et si l'effondrement avait déjà eu lieu, l'étrange défaite de nos croyances, éd. L. L. L. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها