الأحد 2021/09/05

آخر تحديث: 06:55 (بيروت)

أفغانستان: هزيمة الكولونياليّة أم معضلة الدين؟

الأحد 2021/09/05
أفغانستان: هزيمة الكولونياليّة أم معضلة الدين؟
مركبة اميركية تحت سيطرة طالبان
increase حجم الخط decrease
أن تقول إنّ الولايات المتّحدة هُزمت في أفغانستان هو ألّا تقول شيئاً؛ لا لأنّ القول في ذاته لا ينطوي على حقيقة ما، بل لكونه ينتمي إلى ضرب من ضروب الخطابيّة التي لا تفضي إلى شيء، ولا تتيح لك أن تذهب خطوةً أبعد في التفكير. من المشروع، طبعاً، أن تسأل إذا كان انسحاب الأميركيّ من أفغانستان مجرّد «هزيمة» أم جزءاً من نظريّة الفوضى الخلاّقة وخربطةً مدروسةً على الصين وروسيا وإيران. ولكنّ السؤال الأهمّ الذي ينبغي طرحه هو ماذا يمكننا أن نتعلّم من خبرة ما جرى في أفغانستان ويجري هناك.

العقل الغربيّ الذي صنع، بمعنًى ما، «فضيحة» أفغانستان سيتعلّم من تجربته هناك بالتأكيد، وسيستخرج الدروس من الأخطاء التي ارتكبها. هذا لأنّه عقل مفطور على النقد والمساءلة. ولعلّ أبرز مكامن قوّته هو قدرته على مراجعة ذاته ووضع سلوكه هو تحت مجهر النقد على قدر ما يفعل.

هذا مع الآخرين، حتّى إنّ نقد الذات لديه يكاد يفوق أحياناً نقد مقاربات الآخرين وسلوكيّاتهم. بالنسبة إلى الأميركيّين والأوروبيّين، الذين استثمروا طاقات بشريّةً هائلةً ومليارات الدولارات في أفغانستان، لن يمرّ فشلهم هناك مرور الكرام، بل هم سيتفحّصون أسبابه، ويستجلون ظواهره وبواطنه، ويقلّبونه على وجوهه كافّةً طمعاً في الفهم والإدراك واستخلاص العبر. ولكن إذا كان هذا هو السلوك الغربيّ، ماذا عن تعاطي الأفغان ذاتهم مع الانهيار الذي حلّ ببلادهم؟ وكيف يقارب الذين يتعاطفون مع الشعب الأفغانيّ، بفعل انتمائه الحقيقيّ أو الافتراضيّ مثلاً إلى الأمّة الإسلاميّة، الحوادث العظام الآخذة في التسارع هناك؟

إنّ واحداً من الأسئلة المحوريّة التي ينبغي التصدّي لها في الجانب غير الغربيّ، إذا جاز التعبير، يرتبط بماهيّة الشرط السياسيّ والثقافيّ والدينيّ الذي أفضى إلى فشل المغامرة «الغربيّة» في أفغانستان. وهذا السؤال، إذا أُخذ على محمل الجدّ، سيحيلنا إلى مكان في التقصّي العقليّ يتخطّى المقولات التي نستنجد بها في العادة عن الإسلام السياسيّ المتطرّف الذي يفرض ذاته بقوّة السلاح، والذي لا علاقة له بالإسلام «الوسطيّ» المتّصف بالتسامح والاعتدال. فالمسألة ليست تحديد ميتافيزياء الإسلام، بل هي العلاقة بين الدين والتقليد وكيف يستخدم الدين المجتمعات التقليديّة كي يرسّخ سطوته، وكيف تلجأ المجتمعات التقليديّة إلى الدين كي تستمدّ منه مسوّغاتها الثقافيّة. هنا يكمن بيت القصيد، وأيّ محاولة لتوصيف ما جرى في أفغانستان على أنّه هزيمة غربيّة أمام مظهر قديم جديد من مظاهر الصحوة الإسلاميّة إن هي إلّا محاولة اختزاليّة ومبتورة لكونها تستعيض عن الباطن بالظاهر وعن السبب بالعارض.

من اللافت أنّ النموذج «الأفغانيّ» الذي يطالعنا اليوم، أي ارتباط الدين الوثيق بثقافة المجتمعات التقليديّة، بحيث يتوكّأ هو عليها للمحافظة على مسلّماته وتتوكّأ هي عليه لحماية ثوابتها، هذا النموذج هو نقيض النموذج «الغربيّ» القادر، بفعل استناده إلى ديناميّة النقد الآتية من الفلسفة القديمة ومن عصر التنوير، على إخضاع الثوابت والمسلّمات كافّةً، كائنةً ما كانت درجة «قداستها»، للنقد والمراجعة والتفكيك. بهذا المعنى، ما يجري في أفغانستان يحيلنا إلى ديكارت، على قدر ما يحيلنا إلى النظريّات النيو-كولونياليّة. وهو، في التحليل الأخير، لا يأخذنا إلى صراع مفترض أو حقيقيّ بين الإسلام والغرب بقدر ما يأخذنا إلى مكان من نوع آخر عنوانه العلاقة الجدليّة بين الدين ومجتمعات تعيش في حقبة ما بعد الحداثة، ولكنّها ما زالت تتغذّى من ذهنيّات ومفاهيم ومنظومات سلوكيّة سابقة للحداثة. لعلّنا لن نفهم ما يحدث اليوم في أفغانستان، ما لم نأخذ هذه العلاقة الجدليّة في الحسبان…
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها