السبت 2021/09/04

آخر تحديث: 12:06 (بيروت)

ميكيس ثيودوراكيس: جائزة لينين وزوربا الأميركي

السبت 2021/09/04
increase حجم الخط decrease
الرواية الرائجة على سبيل النميمة، هي أن الممثل أنتوني كوين، كان قد اصيب بتمزق في قدمه أثناء تصوير الفيلم الأميركي "زوربا اليوناني" (1964)، ولهذا السبب وجب إدخال تغييرات على تصميم الرقصة الشهيرة في الفيلم، فحٌذفت بضع قفزات، وعُدّل إيقاع الخطوات مع بعض التغييرات في زوايا التصوير. أما كوين، ففي حوارات عديدة، ادعى أن تصميم رقصة الفيلم من ارتجاله بالكامل. ولا تبدو تلك الروايات، بعيدة من الحقيقة كثيراً، فالرقصة التي صممها اليوناني جيورجوس بروفياس اعتمدتْ على مزج وتعديل عدد من الخطوات تعود إلى تقاليد متنوعة من الرقصات اليونانية الحضرية، ولذا فإن الـ"سيرتاكي"، أسلوب الرقص الذي باتت تعرف به رقصة "زوربا"، يصنف على أنه "فولكلور حديث" ينسب إلى بروفياس نفسه، ويعود إلى ستينيات القرن العشرين، ويعود الفضل في رواجه إلى استديوهات هوليوود.

يكاد لا يخلو عنوان خبري ينعي الموسيقى اليوناني، ميكيس ثيودوراكيس، من إشارة إلى تألفيه موسيقى "زوربا" وبالأخص إلى تأليفه موسيقى رقصة الفيلم. إلا أن الرجل الذي توفي قبل يومين عن 96 عاماً، لديه أكثر من ألف عمل موسيقي آخر، بالإضافة إلى تاريخ نضالي وسياسي طويل. إذ شارك ثيودراكيس، المنتمي إلى الحزب الشيوعي اليوناني، في الحرب الأهلية ضد القوات البريطانية وقوات اليمين اليوناني بدء من العام 1943، وتذهب واحدة من الأساطير الكثيرة التي تدور حول تلك الفترة، إلى إنه أُسِر ودُفن حياً. لكن صعود سمعته السياسية يعود إلى فترة الحكم العسكري الذي بدأ مع الانقلاب في إبريل من العام 1967، ولم يكد يمر عليه ثلاثة أشهر حتى أصدرت المافيا الحاكمة قراراً بمنع إذاعة موسيقى ثيودوراكيس في وسائل الإعلام، وفي شهر أغسطس من العام نفسه، أُلقي القبض عليه. وبين السجن والمنفى، عاد إلى اليونان في 1974، لينخرط في العمل السياسي المباشر، ويخوض انتخابات عُمودية أثينا، ويخسرها، ثم عاد وفاز بمقعد في البرلمان أكثر من مرة في الثمانينيات ومطلع التسعينيات، حتى عيّن وزيراً بين العامين 1990 و1992. وطوال تاريخه السياسي الممتد، ظل ثيودراكيس مناصراً لحركات التحرر الوطني، ومعارضاً شرساً للصهيونية، وكانت واحدة من آخر معاركه، وقوفه بشدة ضد الغزو الأميركي للعراق. 


"تنوء اليونان تحت ثقل طبقات من التاريخ، حتى أصبح الأمر أشبه بالكليشيه"، يكتب الباحث الأميركي أنتوني شاي، في كتابه "سياسات الكوريوغرافيا" (Choreography Politics) في إشارة لعلاقة الماضي المتخيل بالثقافة الحديثة. فبحسبه، لم تكن رقصة "زوربا" منتَجاً هوليوودياً فحسب، بل إن الرقصات الريفية في أعراس القرى وحفلات النوادي اليونانية في المهجر، قامت بتعديل رقصاتها التقليدية لتتناسب مع "الفولكلور الحديث" الأكثر جاذبية للسياح، والمفهوم أكثر لمواطنيهم في مجتمعات المهجر. لكن شاي يعود بعملية "اختراع التراث" إلى ما هو أبعد من الستينيات. فاليونان، كونها المختبر الأول لفكرة الدولة القومية، بثورة الاستقلال ضد العثمانيين وتأسيس المملكة اليونانية في 1832، خاضت واحدة من أعنف عمليات خلق الهوية الوطنية قسراً. تمثلت تلك العملية في سلسلة الحروب اليونانية-التركية، وعمليات التطهير العرقي على جانبي الحدود وتبادل السكان، وهي الممارسات التي صارت بعد ذلك نموذجاً لمذابح مشابهة، لكن أكثر اتساعاً، عشية إعلان استقلال الهند وباكستان، وكذا اتخذت موضعاً مرجعياً واعياً في المخيلة الصهيونية لفرض دولة إسرائيل، عبر عمليات تهجير واسعة للسكان. لكن الأمر لم يتوقف هنا، فعبر إنكار وجود الأقليات الألبانية والبلغارية والتركية والغجرية والرومانية، لصالح فكرة إحياء هيلينية أرثوذوكسية، تم إنكار التراث الغني والمتنوع لليونان الحديثة. وتدريجياً، استُبدلت مئات من صنوف الرقص الشعبية وأساليبه الفولكلورية، لصالح صيغ حضرية معدلة تناسب ذائقة برجوازية المدن، وكانت "زوربا" نسختها الأخيرة الأوفر حظاً من سلسلة طويلة ومكثفة من عمليات الفرز والمحو والدمج والتخليط.

ما يقال عن كورويوغرافيا "زوربا"، ينسحب أيضاً على موسيقاها. ففي مطلع عقد الستينيات، كان ثيودوراكيس، العائد من دراسة الموسيقى في فرنسا، قد دخل مرحلة جديدة في جمالياته الموسيقية. فبعد عدد من المؤلفات الكلاسيكية الصرفة، جاءت مرحلة العودة إلى التراث اليوناني، أو ما أطلق عليه هو أسلوب الـ"ميتا سيمفوني"، أي تطعيم بنية الموسيقى الكلاسيكية، بتيمات وعناصر وأصوات وآلات تراثية وطنية. كانت تلك عملية انتقائية بشكل شديد التعسف، وتأثرت بشكل كبير بالموسيقى النضالية للأحزاب الشيوعية الأوروبية في حقبة الحرب الثانية وما بعدها، وجاءت بعد سلسلة طويلة من عمليات الفرز التي اتبعتها الدولة اليونانية وبرجوازيتها، خلال قرن من الاستقلال، لفرز ومحو الموسيقى غير الهيلينية، و"الملوثة" بالمؤثرات الشرقية.

لا يعنينا سؤال الأصالة هنا، ليس لإنه بلا معنى، لكن لإن إجابته مستحيلة، فمن يحدد الأصيل؟ أو عند أي نقطة في التاريخ يمكن حساب الأصالة؟ كان ثيودوراكيس بعمره المديد، و"زورباه"، منتجات مكثفة وإيقونية للقرن العشرين، بصراعاته وحروبه، بإباداته البشرية والثقافية، بمفارقاته التي تشبه سخرية تاريخية من ادعاءات الأيديولوجيا والأصالة والهوية الوطنية. فلعل ثيودوراكيس، المناضل الشيوعي المخلص، الحاصل على جائزة لينين للسلام السوفياتية، كان سيظل موسيقياً مشهوراً في بلده الصغير، ومجهولاً خارجها، لولا فيلم هوليوودي وجائزة الأوسكار التي نالها، ورقصة يقال أن ممثلاً أميركياً مكسيكياً قد ارتجلها، رقصة صارت رمزاً لليونان الحديث، بل ويمكن القول بقليل من المبالغة، إنها اليونان الحديثة. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها