الأربعاء 2021/09/29

آخر تحديث: 12:15 (بيروت)

أخنوخ الذي حظي برؤية "الوجه القدير والمجيد والرهيب"

الأربعاء 2021/09/29
increase حجم الخط decrease
مع استمرار الاحتفال بالشاعر الإيطالي دانتي في مئوية رحيله السابعة، عاد الحديث عن الآثار الأدبية التي طبعت بشكل أو بآخر رحلة صاحب "الكوميديا الإلهية" عبر ثلاثة عوالم في الحياة الآخرة هي: الجحيم والمطهر والنعيم. في الواقع، تجد هذه الرحلة الطويلة جذرها في عدد من الرحلات الرؤيوية التي سبقتها بزمن طويل، ومنها رحلة "أخنوخ السابع من آدم" الذي "نُقل عن الأرض"، وهو في الميراث الإسلامي إدريس الذي رُفع "مكاناً عليا".

لا يحتل اسم أخنوخ موقعاً كبيراً في أسفار الكتاب المقدس. يرد ذكر هذا الاسم في سفر التكوين، عند الحديث عن سلالة أبي البشر. أنجب آدم شيت، وأنجب شيت أنوش، وأنجب أنوش قينان، وأنجب قينان مهللئيل، وأنجب مهللئيل يارد، وأنجب يارد أخنوح. "وعاش أخنوخ خمسا وستين سنة، وولد متوشالح. وسار أخنوخ مع الله بعد ما ولد متوشالح ثلاث مئة سنة، وولد بنين وبنات. فكانت كل أيام أخنوخ ثلاث مئة وخمسا وستين سنة. وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه" (5: 21-24). عاش أخنوخ ثلاثمائة وخمسًا وستين سنة، ولم يوجد بعد ذلك، "لأن الله أخذه"، وتشير هذه الآية الغامضة بأنه لم يمت، لأن الله رفعه. في "سفر يشوع بن سيراخ"، يُذكر أخنوخ مرة أخرى بهذا المعنى، عند الحديث عن الميراث الصالح. "أخنوخ أرضى الرب فنُقل، وسينادي الأجيال إلى التوبة" (44: 16). "لم يُخلق على الأرض أحد مثل أخنوخ، الذي نُقل عن الأرض" (49: 16).

في العهد الجديد، يرد ذكر أخنوخ بهذا المعنى كذلك في "رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين": "بالإيمان نُقل أخنوخ لكي لا يرى الموت، ولم يوجد لأن الله نقله. إذ قبل نقله شهد له بأنه قد أرضى الله" (11: 5). وفي "رسالة يهوذا"، يأخذ هذا الكلام منحى جديداً مع الحديث عن الدينونة والمصير البائس الذي ينتظر الخطأة: "وتنبّأ عن هؤلاء أيضا أخنوخ السابع من آدم قائلا: هوذا قد جاء الرب في ربوات قدّيسيه، ليصنع دينونة على الجميع، ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها، وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجّار" (1: 14-16).

يستند كلام يهوذا إلى نصوص لم ترد في الكتاب المقدس، وهي من النصوص التي توصف بـ"المنحولة"، ولا تُدرج ضمن الأسفار "القانونية". يرتبط اسم أخنوخ بثلاث مجموعات من النصوص تُعرف اليوم بـ"أخنوخ الأول" و"أخنوخ الثاني" وأخنوخ الثالث". تُعرف مجموعة "اخنوح الأول" كذلك بـ"نسخة أخنوخ الحبشية"، وقد دُوّنت في الأصل باللغة الأرامية بين القرنين الثاني والأول قبل المسيح، وتُرجمت إلى اليونانية، ومنها إلى الحبشية وعدد كبير من اللغات، ولا نجد نصّها الكامل إلا في الترجمة الحبشية. أما مجموعة أخنوخ الثاني، فقد دوّنت في اليونانية بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الميلادي الأول، غير انها لم تصلنا إلا من خلال الترجمة السلافية القديمة. تبقى مجموعة أخنوخ الثالث، التي تعود إلى حقبة متأخّرة، وقد دُوّنت بالعبرية بين القرنين الخامس والسادس.

تتألف مجموعة "أخنوخ الأول" من خمسة كتب يصعب اختصار فحواها، وفيها يُرفع أخنوخ، ويحظى برؤية بركة الأبرار ولعنة الأشرار، ثم يصعد إلى خدر العشر السماوي، ومنه يرتحل غربا ويحط في الجبل الذي يحتفظ بأرواح الموتى، ثم يرتحل شرقا ويزور جبل الفردوس حيث يرتفع عرش الله وحيث تُحفظ شجرة الحياة، وهكذا يرى وادي هنوم حيث سيعاقب الأشرار إلى الأشرار إلى الأبد في حضور الأبرار، ثم يتأمّل في جنائن الشرق، ويبلغ فردوس الأبرار حيث يفوح عطر شجرة الحكمة ويغمر سائر الأشجار. في هذا المعراج، يشهد أخنوخ اعلان الدينونة الأخيرة، وهو يوم الضيق الذي سيشهد فناء جميع الأعداء وخلاص الأبرار، وفيه يفتح الرب كنوز البركة التي في السماء ويصبّها على أشغال البشر وأعمالهم، وعندها يجتمع الحق والسلام لجميع أيام العالم ولجميع أيام البشر. ينعم النبي برؤية المساكن الإلهية، ويرى بأم العين دينونة الأشرار والمقتدرين، وسعادة الأبرار وراحتهم في مساكن القديسين، وبعد رؤية سعادة المختارين في النور الأبدي، يصعد إلى مقام الله.

في المقابل، تقدم مجموعة أخنوخ الثاني رواية أخرى لهذا المعراج. في مقدمة هذه الرواية، يقول الراوي إنه بعد أن بلغ 356 سنة، بات في داره راقدا على سريره، حزينا باكيا، فظهر له رجلان كبيران جدا، "وجهاهما كالشمس المضيئة، وعيناهما كمصابيح تشتعل"، و"ثيابهما من الريش المتنوّع، واذرعهما كأجنحة ذهبية"، فناداه باسمه، فاستيقظ، وسجد أمامهما مذعوراً، فقالا له: "لا تخف، فالرب الأزلي أرسلنا إليك، وأنت اليوم تصعد معنا الى السماء". ودّع أخنوح أولاده، وانطلق مع الرجلين اللذين حملاه على اجنحتهما إلى السماء الأولى، وفي هذه السماء رأى الملائكة الذين يسودون على النجوم، ثم رأى "مستودعات الجليد والملائكة الشنيعة التي تحفظ هذه المستودعات"، ثم رأى مستودعات الندى وملائكتها، "وكان منظرهم شبيها بكل زهور الأرض". بعدها، حمل الرجلان أخنوخ إلى السماء الثانية، وفيها رأى الملائكة المرذولين الذين جحدوا بالرب، فحزن عليهم، فطلبوا منه أن يصلي لأجلهم، فقال: "من أنا الإنسان المائت، حتّى أصلي لأجل الملائكة، ومن يعرف إلى أين أنا ذاهب، وماذا يحصل لي، ومن يصلّي لأجلي؟".

تواصلت الرحلة، وبلغ أخنوخ السماء الثالثة، حيث الفردوس المبارك بجنائنه المثمرة ونسيمه العطر، وتعرّف على المسكن الذي هُيّئ للأبرار "كميراث أبدي". وفي السماء نفسها، بلغ الجحيم المشتعلة بالنار المظلمة، وتعرّف على المسكن الذي هُيّئ للأشرار "كميراث أبدي". في السماء الرابعة، رأى أخنوخ أبواب الشمس والقمر، وفي السماء الخامسة، رأى كتيبة أخرى من الملائكة المرذولين، وفي السادسة، رأى رؤساء الملائكة السبعة. في الختام، بلغ السماء السابعة حيث يجلس الرب على عرشه محاطا بالملائكة، فجزع، فأرسل الرب إليه جبريل كي يصطحبه إلى جوار العرش، وهكذا حظي برؤية "الوجه القدير والمجيد والرهيب"، ثم سقط بوجهه على الأرض، وسجد للرب، فأقامه ميخائيل، ومسحه بالزيت.

دعا الله أروئيل، وهو واحد من رؤساء الملائكة، وكان ماهرا في كتابة كل أعمال الرب، وأمره: "اعط قصبة لأخنوخ، واملِ عليه كتباً"، فأسرع أروؤيل، وجعل القصبة بين يدي أخنوخ. شرح الرب لأخنوخ كيف كوّن "ما هو ثابت وما يتحرّك" من العدم إلى الوجود ومن الخفي إلى المنظور، وقال له ان استأمنه على سرّه الذي لم يشرحه حتى لملائكته، ثم حدثه عن الطوفان الآتي بسبب "شر البشر"، وقال له إنه سيترك انسانا بارا من قبيلته ينجو مع كل بنيه، وفي مسيرة هذا النسل ستظهر الكتب التي كتبها بيده، لأنه بات حارسه الأرضي.

تختلف مجموعة "أخنوخ الثالث" بشكل كبير في بنيتها وفي أحداثها، غير أنها تقدم في العمق صورة تمجيدية لأخنوخ تتقاطع مع تلك التي تبرز في النصوص التي تسبقها زمنيا. تبرز هذه الصورة بشكل مختزل في كتاب يُعرف بـ"كتاب اليوبيلات"، ويسمّى أيضا "سفر التكوين الصغير"، وهو كذلك من الكتب المنحولة، ويعود في الأصل إلى القرن الثاني قبل الميلاد. بحسب ما جاء في هذا السفر، كان اخنوخ "أول البشر على الأرض يتعلّم الكتابة والحكمة والمعرفة، ويكتب في كتاب علامات السماء حسب نظام الأشهر، لكي يعرف البشر الفصول حسب ترتيبها، شهرًا شهرًا. وكان أول من دوّن شهادة بين الأرضيين، وأعطى شهادة للبشر. ورأى في رؤية نومه الماضي والمستقبل، ما سيحصل وسط البشر جيلاً بعد جيل، حتى يوم الدينونة". "رأى وعرف كل شيء. ودوّن شهادته، وأودعها على الأرض لجميع البشر لجميع أجيالهم". "انتُزع من بين البشر: حملناه إلى جنّة عدن، إلى العظمة والكرامة. وهناك دوّن الدينونة والحكم على العالم وجميع شرور البشر".

انتشرت قصة أخنوخ في العالم اليهودي كما في العالم المسيحي، وتردّد صداها في العالم الإسلامي عند الحديث عن النبي ادريس. يرد اسم إدريس في آيتين من آيات القرآن الكريم يوصف فيهما بالنبوة وبالصبر عن طاعة الله. وتقول آية ثالثة بأنّ الله رفع هذا النبي "مكاناً علياً" (مريم 56)، من دون أي تحديد واضح لهذا المكان. في مقابل هذا الحضور "الخاطف"، يذخر الميراث الأدبي الديني بالقصص والأخبار التي تتناول نسب إدريس وصفاته والأحداث العجيبة التي اختبرها في حياته. في تفسيره، يجزم الطبري بأن إدريس هو أخنوخ. وفي "المعارف"، يقدّم الدينوري تعريفه بالنبي الذي رُفع "مكانا عليا"، وفيه يقول: "وإنما سمّي إدريس لكثرة ما كان يدرس في كتب الله تعالى وسنن الإسلام، وأنزل عليه ثلاثون صحيفة، وهو أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبسها، وكانوا من قبله يلبسون الجلود، واستجاب له ألف إنسان ممن كان يدعوه، فلما رفعه الله اختلفوا بعده وأحدثوا الأحداث إلى زمن نوح".

احتار المفسّرون في التعريف بهذا "المكان العلي" بشكل جلي، فقدموا تأويلات عديدة مستعيدين الكثير من الأحاديث والأخبار والقصص، وختموا بـقولهم "والله أعلم. هكذا روى أهل الأخبار قصصاً عجيبة في رفع إدريس، وأشهرها قصة نقلها الثعلبي في "عرائس المجالس"، واستعادها القرطبي بشكل شبه حرفي في "الجامع لأحكام القرآن". تقول هذه القصة ان ملَك الموت استأذن الله في زيارة إدريس فأذن له، "فأتاه في صورة بني آدم، وكان إدريس يصوم النهار، فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه، فأبى أن يأكل‏. وفعل ذلك ثلاث ليال، فأنكره وقال له‏ في الليلة الثالثة: ‏إني أريد أن أعلم من أنت‏. قال: أنا ملك الموت، استأذنت ربي أن أزورك وأصاحبك فأذن لي. فقال‏ له إدريس: ‏لي إليك حاجة‏. ‏قال‏: ‏وما هي‏؟ ‏قال: اقبض روحي. فأوحى الله تعالى إليه أن اقبضَ روحه، فقبض روحه ثم ردها الله عليه بعد ساعة، فقال له ملَك الموت‏: فما الفائدة في سؤالك قبض الروح‏؟ ‏قال‏: ‏لأذوق كرب الموت وغمه فأكون له أشد استعدادا‏. ثم قال له: لي إليك حاجة أخرى‏. ‏قال‏: ‏وما هي‏؟ ‏قال: ترفعني إلى السماء فأنظر إليها وإلى الجنة، فأُذن له في ذلك، فلما قرب من النار قال: لي إليك حاجة. قال: وما تريد؟ قال: تسأل رضوان أن يفتح لي أبواب الجنة حتى أراها، ففعل ذلك. ثم قال: فكما أريتني النار فأرني الجنة، فذهب به إلى الجنة، فاستفتحها ففتحت له أبوابها فدخلها، فقال له ملك الموت‏: ‏أخرج لتعود إلى مقرك‏. ‏فتعلق بشجرة وقال‏: ‏ لا أخرج منها"‏. ‏

بعث الله تعالى ملُكاً يحكم بين ادريس وملَك الموت، فسأل الملَك النبي: "مالك لا تخرج؟"، فردّ: "لأن الله تعالى قال: "كل نفس ذائقة الموت" (آل عمران 185)، وقد ذقته. وقال تعالى: "وإن منكم إلا واردها" (مريم 71)، وقد وردتها. وقال تعالى: "وما هم منها بمخرجين" (الحجر 48)، فلست أخرج". وإثر هذا الردّ، قال الله تعالى لملَك الموت: "دعه، فإنه بإذني دخل الجنة وبأمري لا يخرج، فهو حي هنالك".

ختم الثعلبي القصة بقوله إن إدريس "تارة يعبد الله في السماء الرابعة، وتارة يتنعّم في الجنة، والله أعلم". كذلك، استعاد القرطبي في المعنى نفسه القول المأثور: "فإدريس تارة يرتع في الجنة، وتارة يعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها