الأحد 2021/09/26

آخر تحديث: 12:23 (بيروت)

بيتر دويغ – المشهد الطبيعي السحري

الأحد 2021/09/26
increase حجم الخط decrease
"إن الحدث الذروة هذا العام يتمثل في بيع لوحة بيتر دويغ "بيت المهندس المعماري في الرافين" بمبلغ 25 مليون فرنك سويسري (27 مليون دولار أميركي)، مما يعتبر أحد الأرقام القياسية. (نشرة Art Basel – 14 حزيران 2019 )
تعرّفنا إلى بيتر دويغ، الفنان ذو الشهرة العالمية، منذ وقت قصير. لم نتعرّف إليه شخصيّاً، كما يمكن أن يُخيّل للقارىء، بل إلى نتاجه في أبعاده المختلفة. كنّا رأينا أعمالاً له في الماضي من دون أن نعرف شيئاً عن حسبها ونسبها، وأثارت إعجابنا، لكننا لم نبذل جهداً من أجل معرفة صانعها، إلى أن شاءت المصادفة والفضول الجمع بين العمل وصاحبه. 

بيتر دويغ، الفنان السكوتلندي، ألمولود عام 1959، أعاد تعريف الصنف الفنّي الذي طالما شغل الكثيرين، ونقصد بذلك المشهد الطبيعي. هذا المشهد مرّ بمراحل كثيرة منذ ولادته كنوع فنّي مستقل في القرن السادس عشر، إبان عصر النهضة في اوروبا. على أنه، في بداياته، كان شبه مختصر على مشاهد مشتّقة من القصص التوراتية، التاريخية والميثولوجية. قلة من الفنانين جعلوا، في تلك الآونة، من المشهد الطبيعي موضوعاً رئيساً مستقلاً لأعمالهم. بعد المرحلة الرومانطيقية، جاءت الإنطباعية لتنسف الكثير من المفاهيم السابقة، ولتجعل من اللون هدفاً في ذاته، وهو ما طوّرته لاحقاً ما بعد الإنطباعية. هذه اللمحة، الشديدة الإيجاز، تمكّننا من القول، في ما يختص بموضوعنا، إن ما بعد الإنطباعية هذه كانت أحد المصادر التي إشتق منها دويغ أسلوبه، إضافة إلى الأثر الذي تركته لديه أعمال فنانين مثل مونيه وكليمت ومونش.

لا بد من الإشارة، بداية، إلى أن دويغ ينتمي إلى تلك الفئة من الخليقة، أو الفنانين الكثيري التنقّل من مكان إلى آخر. انتقل من أدنبرة إلى ترينيداد مع عائلته في عام 1962 ، ثم إلى كندا بعد أربعة أعوام على ذلك، ومن كندا ذهب إلى لندن حيث شاء أن يتابع دراسته في مدرسة ويمبلدون للفنون، ثم في تشيلسي، حيث نال درجة الماستر عام 2002 . لكن سحر البحر الكاريبي أعاده إلى هناك في بداية الألفية الجديدة، وكان في الوقت نفسه أستاذاً في أكاديمية الفنون الجميلة بدوسلدورف في ألمانيا.

هذا الترحال المستمر، ولو أن بعضه حدث حين كان الفنان في سن صغيرة، ترك صوراً عديدة في مخيّلته، كما أن إقامته في ترينيداد شكّلت مرحلة مفصلية في ما يتعلّق بنتاجه الفني. فهو حين يصوّر هذه الجزيرة، أو الجزيرتين تحديدا الواقعتين في البحر الكاريبي، يخلق جواً إستوائياً لا يخلو من أسرار لا نعرفها. أضافة إلى ذلك، عمد الفنان إلى إستخدام أساليب غير عادية، كتصوير فيلم من خلال تلسكوب، أو التقاط مجموعة من الصور أثناء التجديف حول الجانب الوعر من الجزيرة، لينتج إثر ذلك ما يتناسب مع الجزيرة الهادئة، البعيدة من الضجيج، وهي التي يمكن رؤيتها في عمله "ستارة سوداء" (2004 )، وذلك من خلال نمط تجريدي ناجم عن ضربات ريشة عمودية مغمّسة بلون أبيض.

ففي عام 2002، حين غادر دويغ لندن ليستقر في ترينيداد مع عائلته. لم يكن لديه أي خطط للانتقال إلى الجزيرة في أي وقت قريب، لكن ترينيداد غيّرت طريقته في الرسم. قال حينها: "كيف أرسم ما هو أمامي بشكل مباشر. هناك مسافة قريبة تفصلني عن المشهد. لقد رسمت سلسلتي الكندية في لندن. أمّا في ترينيداد، فقد أعمتني الزخارف الغريبة الإكزوتيكية، وعلى الرغم من ذلك، فقد رفضتُ دائمًا الاستسلام للغرابة. لكن نظرتي تغيّرت مع مرور الوقت. كان منظوري ما بعد إستعماري، لكنه كان أكثر حدّة من الناحيتين العاطفية والسيكولوجية". لا تخفى علينا هنا الإشارة المبطّنة إلى بول غوغان، الذي ترك فرنسا، كما ترك عائلته بخلاف دويغ، وانتقل إلى هاييتي، لتصطبغ أعماله عندها بتلك النزعة الإكزوتيكية، إذ سار في اللون أشواطاً جعلته من أبرز الملوّنين في تاريخ الفن الحديث. كما لا يخفى علينا، أيضاً، التأثير الذي تركه غوغان المابعد إنطباعي، بشكل أو بآخر، لدى دويغ.

في هذا المجال، يتراءى لنا الدور الواضح الذي لعبته الطبيعة في أعمال الفنان، علماً أن إهتماماته توزّعت بينها وبين موضوعات أخرى. وهنا لا بد من ذكر ما قالته إليزابيت ديكولتو، الكاتبة المتخصصة في تاريخ الفن، إذ أفادت: "يبدو لي أن جميع الفنانين سعوا دائمًا، عبر التاريخ، لرؤية حركة عناصر وقوى الطبيعة في الإنسان والتعبير عنها. ولكن سوف تتكوّن المناظر الطبيعية من الآن وصاعداً من الافتراض المعاكس، أي أنه في جميع الأزهار وفي جميع النباتات وفي جميع الظواهر الطبيعية، يرى الرجال شخصهم وصفاتهم وشغفهم". فبيتر دويغ كان مفتونًا بالأماكن الخارجية الآسرة، واعتبر أن علاقة الإنسان بالطبيعة لا تقهر خلال سعيه إلى الأصالة والإلهام. كما أن البيئات التي يمثلها لا يتم رسمها غالباً في الهواء الطلق (كما كانت حال الإنطباعيين)، بل إنها تعتمد في الواقع على الذكريات والصور والأفلام والصور التلفزيونية.
 فالزورق الذي يظهر مرات في عمله هو من فيلم رعب كان شاهده مع والده، وأعاد دويغ "بناءه" في عمله "100 عام"، أو ما يمكن أن نسمّيه أيضاً: "رحلة في المجهول" (2004). هنا نرى سحر اللون المشبع قوّة: البرتقالي الغاضب كلون للزورق، وإنعكاسه الناري المتناقض مع الأزرق المسيطر في اللوحة. الرجل في زورقه العملاق، وهو الذي يوحي مظهره وكأنه "مسيح" قادم من زمن آخر، وحيداً في وسط بحر لانهائي .. وقد نتساءل هنا إذا ما كان هناك نوع من التأمل أم التعبير عن عزلة مقلقة؟

أما في ما يتعلّق بعمله الشهير "شجرتان" (2017)، فتجدر الإشارة إلى أن سكان ترينيداد متنوعون للغاية (تم جلب العديد من العمال من آسيا وإفريقيا وأوروبا إلى الجزيرة). هذا الأمر أدّى إلى تكوين مجتمع متعدد اللغات مختلط للغاية، وغير منسجم في بعض الأحيان نظراً لتنوّع الإنتماءات العرقية، كما أنه مادي للغاية (وهو ما يفسر مشاكل الانحراف). أما السبب الذي دفع الفنان إلى رسم اللوحة المذكورة، فقد جرى ذلك بعدما شهد شجاراً بين رجلين نراهما في العمل ذاهبين في إتجاه بعضهما بغية القتال، في حين نرى شخصية ثالثة في الجهة اليمنى تقوم بتصويرهما. قصة ما كان ليخطر تفسيرها في بالنا لولا معرفة ظروف صناعة اللوحة. هكذا، تتركنا لوحة دويغ، أو لوحاته، أمام مهمة تفسير لغزها الخاص، بالرغم من أنها لا تنحو صوب التجريد. 

كما أن أعمال دويغ، في مجملها، تضعنا أمام مسألة أخرى. فالمشهد ليس العالم الذي نراه، ولكنه بناء لهذا العالم؛ إنه مشتق من إنتاج اجتماعي وثقافي. هذا ما يحاول قوله لنا المؤرخ سيمون شاما، في كتابه "المناظر الطبيعية والذاكرة" (1995)، الذي يتتبع أنساب بعض النماذج الأساسية في الخيال الغربي للطبيعة. بالنسبة للمؤلف، تظهر المناظر الطبيعية قبل كل شيء على أنها إنشاءات ينقلها الخيال إلى الكون المادي، من خلال عمليات تشكل جزءًا من الذاكرة الجماعية، والتي يصف تنفيذها من خلال توزيع أمثلته وفقًا لثلاث مجموعات مواضيعية كبيرة: الخشب والماء والصخور. خلال هذا العمل الكثيف، يكرر Schama أن "المناظر الطبيعية ثقافية قبل أن تكون طبيعية". علاوة على ذلك، كثيرًا ما يُصادف مصطلح "ثقافي" في ما يتعلق بالنظريات التي، بطريقة أو بأخرى، تناقش ماهية المنظر الطبيعي وتجلّياته التشكيلية.

أعمال دويغ هي قطع من الحياة. فهو يستعيد المشاعر المألوفة التي يشعر بها المرء أمام عالم من الطبيعة الخصبة والهادئة والغامضة في علاقاتها الجدلية. إن النتاج البارع لدويغ هو، بالتفصيل، طبقات متعددة من اللوحات متراكبة مثل "المرشحات"، كل واحدة تضيف فارقًا بسيطًا، لمعانًا، وانعكاسًا، وشفافية وسحراً ملموسًا على لوحاته. إنها حية ومتغيّرة مثل "أليس في بلاد العجائب"، إذ لا نعرف ما الذي ينتظرنا. فبيتر دويغ هو رجل يبدو مفتونًا بالصور. غالبًا ما تكون تأليفاته مبنية على مستويات عديدة، فهي ليست جمالية للوهلة الأولى فحسب، بل إنها تقدم قصة جديدة أيضًا. فإذا أخذنا لوحته الكبيرة الحجم "النشاف" Blotter، على سبيل المثال، فإن أول ما نراه هو منظر طبيعي ثلجي، لكن بناءه فريد من نوعه. تم تخصيص نصف العمل للانعكاسات في الماء مثل تلك التي قد يجدها المرء في طبعة estampe يابانية. ظلال من الوردي والأبيض تؤلّف أشكالاً مجردة. يُظهر الجزء العلوي حافة مسار وأشجاراً رمادية داكنة مغروسة في الثلج. لا سماء في اللوحة. في المنتصف شخص صغير يراقب، واقفاً ورجلاه في الماء. لا نعرف ما الذي ينتظره. الكل مبطّن بهذا الثلج الذي يخفف بصريًا جميع الأشكال. هناك أيضا كل هذه المجموعة من الأشجار التي تختبئ وراءها المباني التي لا تكشف أسرارها، فاللغز حاضر دائماً في أعمال دويغ، كما اللمسة السحرية. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها