الأربعاء 2021/09/22

آخر تحديث: 12:03 (بيروت)

السلطة السخيفة

الأربعاء 2021/09/22
السلطة السخيفة
يقال للطبقات الشعبية ملامةً: "بكرا، بتنتخبوهم هني ذاتهم"
increase حجم الخط decrease
ماذا يعني أن تكون السخافة في السلطة؟ هذا الاستفهام يطرح نفسه باستمرار حيال ما يحصل في لبنان. وهو استفهام سرعان ما يحمل الى غيره، وهو يتعلق بنمط التعامل الذي يمكن اعتماده مع هذه السلطة السخيفة، او سلطة السخافة، فكيف من الممكن التصرف معها؟

حيال هكذا سلطة، ثمة عمل اساس، يخطر في البال مباشرة، وهو رفضها، وهذا، من باب ألا بد أن يشغلها شيء ما غير السخافة. بهذه الطريقة، يصير رفض سلطة السخافة كناية عن دفاع عن السلطة، وإيمان بدورها، ودعوة الى أن يَبلغها مَن يستحقها. مَن يستحقها؟ يقال: صاحب "الكف النظيف". فهؤلاء النظيفون، حين يقيمون في السلطة، سيجعلون منها وجهة تكفل مكافحة الفساد وكل الخطوات الأخرى. فالسلطة، بهذا المعنى، ولمّا يصل إليها الكف النظيف، تكون نظيفة مثله. أما حين يصل اليها الكف القذر، فإنه يوسخها.

يكتب لاو تسو عن "القديس فوق الشعب"، الذي، ورغم كونه يجثم فوقه، لا يشعر بوزنه، ولذلك، لا يعترض عليه. وفي الأساس، ماذا يعني الاعتراض على قديس؟ فكل مشكلة معه محسومة سلفاً لصالحه، كونه بلا أي خطيئة، الخ. هذا القديس، الذي يذكّر في طرح لاو تسو بأصحاب "الأكفّ النظيفة"، يضمن للسلطة هالة، لكي ترتفع، تغدو فوق أكثر فأكثر. بهذا المعنى، القديس هو الذي يعلي من شأن السلطة، هو الذي بالأحرى يحاول انقاذها، لكن، من ماذا؟

يمكن الاستناد الى حديث اسبينوزي (نوعاً ما) من أجل تعيينه. فما الفرق بين السلطة والقدرة؟ السلطة هي أدنى درجات القدرة. مثال بسيط، وربما ليس كافياً: تجد أن سواك، وكالعادة، ليس أنت، لكنك بدلاً من أن تقدر على تأكيد ذلك عبر مدّ صلة معه، تمضي الى التسلط عليه من باب أن يغدو على نحوك. بهذا الشكل، قدرتك على أي صلة معه تتقلص الى كونها مزاولة للسلطة عليه. سلطتك عليه ليست صِلة من قبلك معه، انما هي نهاية هذه الصلة، او انتهاء منها.

بالارتكاز إلى هذا التمييز بين السلطة والقدرة، يمكن التنبه الى ان الأولى، بما هي أدنى من الثانية، تقوم بأمر محدد، وهو السخافة إياها. بعبارة اخرى، هذه السخافة ليست صِفة قد تتسم بها السلطة أو قد لا تفعل، إنما هي قوامها: كل سلطة هي سلطة سخيفة. فالسخافة هي أيضاً من تشكيلات محاصرة القدرة، تحطيمها، خنقها، منعها، وهذا، من قبل طرف بعينه، وهو حاملها. السخيف هو الذي يطيح قدرته، ثم قدرة سواه، لأنه يخافها، وهذا الخوف، يمكن تسميته اختيار السلطة.

بالتالي، فإن "قديس" لاو تسو، من قبيل أصحاب الأكفّ النظيفة، ينقذ السلطة من سخافتها، لكنه، وبما أنه يجعلها ترتفع وتصير فوق، فهذا يعني أنه يتيح لها أن تكون سلطة أكثر، وعندها، أن تعود الى سخافتها من جديد. فكلما ارتفعت السلطة، كلما حملها قديس ما، تزيد سخافتها، أو بالأحرى لا تبارحها، اذ تقلع منها لتنزل فيها من جديد. من هنا، فإن فِعل القديس حيالها لا يؤدي سوى الى بطلانه: "مرمغة" القديس بالسلطة، وتحوله الى سخيف، وكل غلاظته في كونه بلا وزن كما يصفه لاو تسو نفسه. 

منذ مدة، شاعت عبارة، هي كناية عن ملامة تطلق من هنا وهناك بحق الطبقات الشعبية في لبنان، وهي "بكرا، بتنتخبوهم هني ذاتهم". يمكن قراءة هذه العبارة، أو بالتحديد الفعل الذي فيها، أي "انتخابهم هني ذاتهم" على ضوء كون كل سلطة هي سلطة سخيفة أو سلطة للسخافة. فانتخابهم هم أنفسهم، وبما هم عنوان شخصي للسخافة، من قبل تلك الطبقات، هو، بمقلب من مقالبه، رد على السلطة على سبيل إبدائها مثلما هي من دون فلتر، ومن دون اي تعويل على تغييرها من قبل قديس أو كفّ نظيف. وضع السخفاء في السلطة هو إعطاؤها ما تستحق، بحيث لا تستحق سواهم، وفعل ذلك ينطوي أيضاً على ما يشبه إرجاع ما قدمته، إرجاعه لها. فأن تحكم، فهذا يساوي أن تطلق سخافتها، وأن يوضع السخفاء فيها بانتخابهم "هني ذاتهم" مرة تلو المرة الى درجة اهترائهم، فذلك قريب من كونه إرجاعاً للسخافة، التي لطالما حكمت بها، الى سدتها.

ثمة إشكالية في كل هذا، وهو ان إرجاع السخافة الى السلطة، يؤدي الى إطلاقها لها من جديد، بعد أن تكثر منها. وهذا، في أخذ وردّ قد لا ينتهي سوى في حين استنزافها. هذا الاستنزاف، وفي جولته الاخيرة، يمكن تخيله هكذا: إرجاع كل السخافة الى السلطة، بحيث انها، ومن بعدها، لا يسعها ان ترد بها. فصحيح أن انتخابهم "هني ذاتهم" فعل مقاومة للسلطة، ومقاومتها هذه تبديها على ما هي، أي كمحل للسخافة وكل من يمثلها. لكن هذا الفعل له حده، ولا بد أن يقترن بتلك الجولة الاخيرة: إرجاع كل السلطة لكل للسلطة حتى تنحيها من الأفق.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها