الثلاثاء 2021/09/21

آخر تحديث: 17:07 (بيروت)

السلطة التي تحكمنا بأجسادنا

الثلاثاء 2021/09/21
السلطة التي تحكمنا بأجسادنا
تموين الصمود: شمعة وسيجارة وهواء السطح (غيتي)
increase حجم الخط decrease
دولة كانت واختربت، اللادولة، دويلة "حزب الله" المهيمنة، دولة فاشلة، نظام، منظومة، طوائف، جماعات... ما عاد التصنيف ذا أهمية كبيرة. في لبنان، ثمة سلطة فقط. رثة، فاسدة، مجرمة، مهترئة، متعفنة، مخفقة، عاجزة، وأكثر.. لكن هذه الصفات كلها لا تنفي أنها تحكم فعلاً. كيفية الحُكم هي التي تتغير وتتفاقم منذ عامين، وبمدلولات عديدة، أبرزها إحالة المواطنين إلى أجسادهم، اختزالهم فيها بالحد الأقصى، ونخر هذه الأجساد المحضة بالعجز السامّ.


قبل عقود، شفع للأجساد كُمونُها في فقاعة سعادة ما، استهلاكية، مصرفية، تربوية وطبية، وحتى ثقافية. وانفجر الوهم الهشّ. وفي تشرين2019، تصدّرت للالتحام بحرس مجلس النواب وعناصر مكافحة الشغب وشبيحة الموتسيكلات. فقدت عيوناً وأصابع، وأحياناً الأرواح، لكنها ظلت أكثر من أجساد، كانت بدايات خطاب ومعنى، أملاً (ضئيلاً) وقفزة بالسياسة.. قبل إسقاطها. لكن الأجساد الآن، في التحام بعضها ببعض، دوناً عن السلطة، في محطات الوقود، وقبل ذلك في السوبرماركت حيث تناتشت ما تبقى من سلع مدعومة، تتقهقر إلى نواتها البدائية الأولى، إلى مُوجِب سعيها للسعي في ذاته، لإطعام البيولوجيا والنقليات واليوميات، وهذه النواة تتطوّر وتتكيّف وتتعلّم الصبر في الطوابير بلا أمل في الترقي إلى رأس السلسلة الغذائية. 

الطوابير. طوابير كل شيء، من المحروقات والأفران والسوبرماركت، إلى مقرات الأمن العام لاستصدار جوازات سفر ومحاولة الفرار من الجحيم. الطوابير ليست طبقية، أو أنها ليست كذلك فقط. الشحّ عابر للطبقات الاجتماعية، إلا من رحم الرب وآتاه للأسواق السوداء سبلاً شحيحة هي أيضاً.

في الطابور، تتكور الأجساد في السيارات، فوق الدراجات النارية، أو وقوفاً على الأقدام والغالونات في الأيدي. تساورها الآلام الفيزيائية، قبل المشاعر. القلق والغضب والخوف والمهانة، أعراض ثانوية. والزنازين حديدية مدولبة، والأخرى فقاعات هواء مكتوم بالازدحام، تلاصُق الأكتاف وتقارُب الوجوه المرعب في زمن كورونا.

ندرة المحروقات تخلق معظم هذه الطوابير، وتولّف أيضاً أجساد البيوت والمكاتب، اللاهثة من صعود السلالم والحرّ، حاثّة الخطى إلى البيت مع هبوط الليل والعتمة، الأجساد المتكورة على ضغط إنجاز عمل يقصمه انقطاع الكهرباء والانترنت، والمُقترَحَة كحقول تجارب/تسمُّم جراء أطعمة تفسد في الثلاجة. والندرة نفسها، مضافة إلى بورصات أسعار الصرف وأمزجة إدارات المستشفيات والمؤسسات الضامنة وأقاويل رفع الدعم، تستحكم في الأجساد السقيمة الباحثة عن طبابة وأدوية وعلاجات. يصبح المرض شارعاً باتجاهين، من الداخل العضويِّ مرضٌ، ومن الخارج المنهار مرضٌ زائد.

قبل أسابيع قليلة، اجتمعت أجساد مرضى السرطان في ساحة بيروتية، مُطالبة بعلاجاتها، صائحة بأنها، حتى لو أرادت، لا تملك الوقت، لا تقوى على انتظار، والتقنين العلاجي لا ينفع حتى لتأخير الموت. هؤلاء لم يكونوا مواطنين مرضى، بل أجساداً مجرّدة إلا من عُضالها، تخضعها السلطة، سواء عن عمد، أو كأضرار جانبية للانهيار الأساس. تعذّبها كما في أقبية السجون. تتبرأ منها، كما الفروع الأمنية من جثث لم تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد. ومثل أجساد هؤلاء، أجساد الأطفال المكشوفة على أخطارٍ، كانت بالأمس القريب، في عِداد المَقضي عليها ببداهة اللقاحات المفقودة اليوم، أو غير الفاعلة، القليلة، أو الغالية. وصار تكراراً بلا طائل الحديث عن الحليب، والحفاضات، وخافض الحرارة... غيابات قاهرة للأجساد الصغيرة.

أما رفات القتلى وأشلاؤهم، فـ"الحاكمية" ذاتها، بعد جُرمها بتفجير مرفأ بيروت، تقترف التمثيل في جثثهم بحجب العدالة عن قضيتهم. عائلاتهم أيضاً، في عيون المجرمين، احتشاد أجساد في هذا الاعتصام أو ذاك، يتم دفعها بالتوابيت الرمزية وأعقاب البنادق، حناجر مزعجة، وأيدٍ تحجب النظر بالصُّور. هذا هو مشهد اللحم والدم المرئي من شرفات نواب ووزراء وسلطات دينية، مع حُواةٍ لاعبين بالأفاعي والقوانين. ومثل هذه الجثث، ومثل هؤلاء الأهل المكلومين، أجساد ضحايا الأب منصور لبكي، الذين راحوا يفتشون في فرنسا عن حقّهم من المتحرش مغتصب الأطفال. ومثل هذه الجثث، ومثل هؤلاء الأهل المقهورين، أجساد-أرقام يرديها السلاح الفالت، مجدداً في طوابير البنزين، أو في خلال خروجها إلى شيء من العَيش، وآخرها كانت تاتيانا واكيم ضحية الطلق الناري خلال إشكال في مطعم. وأجساد جريحة أو متفحمة هي حصاد دوريّ لانفجارات مولدات وقوارير غاز ومستوعبات تخزين الوقود. هذه أجساد سرعان ما تُنسى أسماؤها ووجوهها وحكاياتها. فالموت كثير، في زمن القلّة. يغبّ ما قبله، إن كانت قبله حياة. 

وهناك الأجساد المُستدعاة. لا يهمّ مَن هم أصحابها، طالما أنهم زُمَر المناصرين الأوفياء، للحزب، للطائفة، للزعيم. الصورة، تجمّع الأجسام لصُنعها، هو المهم. آخِر الأمثلة، مُستجلَبون من بيوتهم للوقوف على شرفات بيوتهم وناصيتي الطريق، بكل "عفوية"، ناثرين الأرز، ملوحين بالأعلام، مطلقين الزغاريد، فيما تمرّ مواكب المازوت الإيراني تحت أقواس نصر الرصاص وقذائف "آر بي جي". أجساد معرّضة، منذ عقود، للفداء. في لبنان وسوريا. دائماً في مرمى رامٍ أحمق لا رادّ له إلا الصدفة. الجسد البحت بحُكم الصدفة البحتة، وهي صدفة اللُّطف نفسها التي جعلت البيت الذي أصيب بقذيفة ابتهاج، خالياً من "الشهداء".

السجون، المستشفيات، المختبرات، سجلات المواليد والوفيات، المدارس، وسواها من المؤسسات الدولتية والخدمية.. لطالما شرّحتها الفلسفة وعلوم الاجتماع كمَشارِط سلطة تُعمَل في أجساد الرعايا، لتكون دولة أمّة، ليكون "سيستم"، ويكون مواطنون. فما الحال بلا دولة، وبلا مواطَنة؟ الإخضاع، التدجين، التربية، السيطرة.. كلها نفسها، لكن من دون حقوق، من دون ذوات، خضوع مجاني في غياب كل احتكام موضوعي للقانون. الأجساد اللبنانية، في حقبة الإفلاس، بكماء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها