الثلاثاء 2021/09/21

آخر تحديث: 12:23 (بيروت)

الجسد المَنبوذ

الثلاثاء 2021/09/21
الجسد المَنبوذ
طابور غاز في مصر
increase حجم الخط decrease
يعيش الفقراء، وسط تمظهرات الحداثة في كل الدول، لا سيما الدول العربية، منبوذي الأجساد من أطراف عديدة تتمثل بشكلٍ رئيسي في الدولة والاجتماعات السلطوية المقربة منها، والتي تتشكّل في المؤسسات الرسمية للدولة، والعمران المُصمم خصيصاً من أجل استهلاك الطبقات العليا. يتعايش الجسد الفقير مع شتّى التمظهرات الشكلية والجوهرانيّة في حياته اليوميّة، حتى يتأقلم مع تلك المُعاناة المُتمثلة في النبذ والتحقير. فما هي تلك التمظهرات التي يُقابلها الجسد المنبوذ، وكيف يرى المنبوذ نفسه بعد تأثيرها فيه؟


يعدُ الطابور [1]، وهو اسم رواية للكاتبة المصرية بسمة عبد العزيز، ضمن ذاكرة القهر -وهي أيضاً دراسة لها- لِلفئة المَسحوقة في المُجتمع، فمن المظاهر التي تصوّرها الذاكرة المرئية للفئات الأكثر فقراً، في وقوفهم لساعاتٍ طويلة وربما كلّ يوم مُصطفين في طابورٍ، لينالوا ما يريدون، تمثّل -ومازالت- هذا الطابور في أفران الخبز، المصالح الحكومية، تحصيل المعاشات، تحصيل السلع المدعومة من الدولة، والسلع التي تبيعها بالجملة أو بالمجان بعض الجمعيات الخيريّة، وغير ذلك من انتظارات جمعانية لأجسادٍ تسعى إلى حياة كريمة [2].

الأجساد المُتلاصقة دائماً ما تكون صابرة ومُضطرة، والتمَظهرات التي جمعتها في هذا الشكل كثيرة، وليس الطابور وحده. فَتتواجد تلك الأجساد في عربات القطار، الدرجات العادية والمميزة، وهى الدرجات الأقل سعراً، حيث تتواجد كل يوم مئات الأجساد المُتلاصقة التي تركب تلك الدرجات ذاهبة أو عائدة إلى بيتها/عملها/تعليمها وغير ذلك. أيضا مترو القاهرة يعدُّ ممارسة يومية لتلك الأجساد التي تلتحم ببعضها البعض من أجل إتمام يومها، وعدم توقف الحياة. فالمترو -بالرغم من تكدّسه- في بعض الساعات والمحطات اليومية، إلّا أنه يعد السبيل الوحيد للوصول إلى مسعى هؤلاء الناس.

ليست فقط الطبقات الأشد فقراً والفقيرة هي المُلتحمة دائما، بل يتداخل معها الكثير من الطبقات الوسطى والوسطى الدُنيا، فوجود شركات المواصلات والسفر المُتعددة مثل أوبر وكريم وسويفل وغيرهم، أَبعدَ الكثير من الطبقات الوسطى والوسطى العُليا من هذا الالتحام في هذه الأماكن. تلك الفئات التي تحوّلت إلى أجسادٍ مَقهورة، بفعل السياسات الحياتية التي لا تُراعيهم، والتي تعرّضهم دائماً إلى النبذ من الفضاءات التي أُعدت في المقام الأول لاستهلاك ذوي الطبقات العُليا وغير المقهورة إنسانيّا، مثل الصعوبة التي تجدها عند دخول أفخم المولات في مصر، إذ إن هرولة الملابس على الأجساد، وارتداء أحذيةٍ بسيطة، ربما يتسبب في تقييم أمن البوابة أن تلك الأجساد لا تنتمي إلى ما هو داخل الفضاء الاستهلاكي، وربما يحكم بعدم الدخول طبقاً للوائح تابعة لمظاهر الأجساد المتسوقة، أو في أقل الاحتمالات يبدأ أمن البوابات بالتحقيق مع الزائر، ويسأله عن أشياء لا يسألها لغيره: لماذا جئت؟ وماذا تريد من الداخل؟

كذلك أماكن الترفيه، مثل الحدائق والنوادي والشواطئ العامة، التي بدأت الدولة المصرية مؤخراً في خصخصتها عبر البيع أو الإيجار مباشرة إلى مستثمرين، وبعدما كانت تلك المساحات هي ملاذات الترفيه لدى المَقهورين وأطفالهم، الذين -من خلالها- يستطيعون التفسّح والضحك وشمّ الهواء واللعب، أصبحت هي فضاءات ترفيهيّة خاصة، يُدفع ثمن تذاكرها عند الدخول، بالإضافة إلى تقديم الأكل والمشروبات من التابعينَ لهذا الفضاء، ما يكلّف المَقهورين أموالاً ليست بِحوزتهم، ويضطرهم إلى المكوث في البيت والتخلّي عن الترفيه البسيط الذي كانوا ينعمون به، أو الانتقال إلى أماكن لم تُخصخص بعد، ما يؤدي إلى فلسفة الطابور والازدحام مرّةً أُخرى.

قهرٌ آخر ومستمر ومُتجدد، يقع على ذواتهم النفسية، عندما يجلسون مُفلسين أمام شاشات التلفاز في المقاهي وفي البيوت، يشاهدون كمّ الإعلانات الضخم الذي يُبث لهم، للمُشاهدة فقط وليس للشراء، الإعلانات الساحلية على الشواطئ في القرى السياحيّة الفاخرة، التي تُغني للشَركات، خاصة شركات الاتصالات في مصر، وتدعو المصريين للمصايف. أو دعايات التجمعات السكنيّة الفاخرة في قلب القاهرة والمدن الجديدة، والتي تحوي أفخر الشقق، وأفضل المدارس وأماكن التنزه والترفيه والخدمات، بواسطة نجوم الإعلام والسينما. كل هذا وأكثر، يراه ملايين المصريين، في الحارات والأزقّة الضيّقة والمُهمّشة، وبعضهم لا يجد في جيبه إلّا بضع جنيّهات، ويفكّر طيلة الوقت قلقاً في معيشة اليوم قبل الغد، حاملاً همَّ شراء ملابس وطعام البيت، وغير ذلك مِن مُتطلباتٍ معيشية تتمثّل في الصحة والتعليم والكهرباء والغاز والمياه.

وغير ذلك من الشكلّيات الواقعية التي تحدث، تاركة أثراً كبيراً لدى هذه الفئات غير القادرة على اللحاق بركب الاستهلاك المُتدفق عليهم، ما يسبب لهم عقدة نقص، وتلك هي أولى خطوات الإخضاع التي يُلبّسها له هذا العنف الرمزي القائم على الأرواح المَنبودة [3]. تفقد هذه الأجساد الثقة في كينونتها الأصولية من حيث الانتماءات الثقافية والاجتماعية، طالما تلك الأصولية لا تُلون الشكل الخارجي للجسد بمواصفات تناسب أزمكانات الاستهلاك، فَالثقافة لا تُعطي جسداً فقيراً، قبولاً واحتراماً في قاعة مناسباتٍ أو شاطيء خاص أو مول فخمٍ. وهذا ما يسبب اكتئاباً وجودياً، يفرق الأكاديمي المصري مصطفى حجازي بينه وبين الاكتئاب الداخلي endogene (اكتئاب داخلي المصدر) الناتج عن خللٍ نفسي مُعين. أما الوجودي فقد نتج عن هزيمة نفسيّة بشأن سياسات الحياة نفسها التي نبذت واحتقرت الأجساد الفقيرة، حتى وإن تداخلت أعراض الاكتئابيّن بنَوعيه [4].



أيضا، تجلّى هذا النبذ في تمظهرات رسمية كثيرة، ترعاها الدولة مثل المؤتمرات المنعقدة دائما، أو استقبال وفود دبلوماسية خارجية، حيث في تلك المناسبات وغيرها، تقوم السلطات بتمشيط الأجساد المنبوذة من الفئات الشعبية، محاولةً محوها من الصورة، وكأنها لم تُخلق من الأساس، هي وما يُحيط بها من عُمران وشوارع تنتمي إلى النبذ. فيتم الاستقبال والعقد والاحتفال في ساحاتٍ مُجهزةٍ بأجساد راقية غير منبوذة. وهذا نوعٌ سلطوي من النبذ للجسد المَقهور، فضلاً عن النبذ الذي يتم للجسد السياسي/الفكري الذي تستثنيه السلطة من الحياة ويتم إخفاؤه أو عزله بعيداً من العين بشكلٍ دائم [5].

يسعى الإنسان المَقهور إلى محاولة نشل نفسه بكلّ الطرق من هذا النبذ، ليعيد إنتاج ذاته وجسده من جديد بطريقة تليق للالتحاق بمواكب الاستهلاك، لذلك تلهَث طبقات وسطى لحقت نفسها من السقوط إلى قِيعان الفقر، إلى الصعود نحو تلك المُجتمعات المُتمايزة، مجتمعات الاستعراض بوصف مُشرّحها الاجتماعي الفرنسي غي ديبور [6]، والتي تكمُن في مولاتهم وشواطئهم وقاعاتهم ومُجمّعاتهم السكنية والترفيهيّة وغير ذلك، ما يترتب عليه هروب الفئات العُليا إلى أماكن أكثر تمايزاً بعدما لحقت بهم فئات من الطبقات الوسطى. فإن لحقت الطبقات الوسطى بِالإسكندرية كمدينة ساحلية يَترفه فيها الناس، يلحق أهالي إسكندرية من الطبقة نفسها إلى السواحل الشمالية، فتجد الطبقة العُليا هُناك أن طبقة أقل منها قد جاءت إليهم، فيتّجهون بدورهم إلى مدينة العلمين من أجل الحفاظ على هذا التمايز، لأن الاستهلاك لديهم شيء تفاخريّ مُعرّض للمقارنة دائماً، وإعادة إنتاجه بالبحث عمّا هو أعلى تفاخراً، من أجل التمايز [7].

هذا مثال واحد من ضمن أمثلة كثيرة وممارسات تدل على النبذ واللحاق والهروب والتمايز بين طبقات المصريين المُختلفة. كما في التجمعات السكنية الجديدة التي أتى إليها الهاربين من وسط القاهرة، ذاهبين إلى التجمُعات المعدودة في القاهرة الجديدة، ومُدن السادس من أكتوبر، ويستعد البعض منهم في الوقت الحالي للذهاب إلى العاصمة الإدارية الجديدة، والتي أصبحت أكثر تمايزاً من التجمعات السكنية المميزة. وهكذا، ينتقل الناس في عصر اللاأمكنة بوصف الفيلسوف الفرنسي مارك أوجيه، باحثين عن التمايز، فاقدين قيمة ارتباط إنساني بالمكان، بما فيه من هُوية ثقافية وعلاقات إنسانية مُرتكزها الارتقاء العام والتناغم مع الآخرين، لا التمايز عنهم [8].

الهوامش:

1- بسمة عبد العزيز، الطابور، التنوير للطباعة والنشر، ط1 القاهرة 2013.

2- بسمة عبد العزيز، ذاكرة القهر: دراسة حول منظومة التعذيب، التنوير للطباعة والنشر، ط1 القاهرة 2014

3- مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، ط9 المغرب 2005، ص 45

4- مصطفى حجازي، الإنسان المهدور: دراسة نفسية تحليلية اجتماعية، المركز الثقافي العربي، ط1 المغرب 2005، ص 286.

5- حالة الاستثناء: هي الحالة التي يُعطل فيها القانون من صاحب السيادة، في حالات بعينها تمر بها البلاد. يرجع أول تعريف لما يعرف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث، وهو ما عرّفه أنه بيد السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطر بعينها في كتابه اللاهوت السياسي. وقد نُوقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعت بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء في مجموعته المعنونة بـ"الإنسان الحرام". انظر: جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للنشر والأبحاث، ط1 – 2015، ص 39.

6- غي ديبور، مجتمع الاستعراض، ترجمة أحمد حسان، دار شرقيات، ط1 القاهرة 2000.

7- ثورشتاين فيبلن، نظرية الطبقة المترفة، ترجمة محمود محمد مرسي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط1 القاهرة 2011

8- مارك أوجيه، اللاأمكنة: مدخل إلى أنثربولوجيا الحداثة المفرطة، ترجمة ميساء السيوفي، هيئة البحرين للثقافة والآثار، ، ط1 البحرين 2018، ص 77.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها