السبت 2021/09/18

آخر تحديث: 13:03 (بيروت)

محمد خضير... أحلام المدينة العتيقة

السبت 2021/09/18
increase حجم الخط decrease
يبتكر الفنّان عبد الملك عاشور (البصرة، 1949) صبغاتٍ خليطة، يطغى اللون الأحمر عليها، لتظهير فكرته التجريدية عن مدينته القديمة، بعنوانات مختلفة (مدن حالمة، مدن مهاجرة، مدن حجرية، مدن أسطورية، مدن خضراء..) لا لترميم صورة العُمر والبقاء بين جدرانها سنوات إضافية، فوق سنوات الكهولة_ تعريساً بين الأطلال_ ولا لتجميل وجهِها المقابل لوجوده الموزَّع على لوحاته المعلّقة في استوديو _ ما فتئ يزوره الأصدقاءُ كفنارٍ على صخرة الواقع المتلاطم بأهل الأسواق_ بفرع من فروع "العشار". ليس أي من هذا في باله، رغم عزمه مراراً على هجر مدينته، فهو يعود ليجدّد علاقته بمكانٍ يسيل في ذاكرته كلونٍ جامح لا يستطيع كبح سيولته، أو كصحراء تتمدّد وراء رغباته وسفراته القصيرة، مزدحمةً بالوجوه المتدفقة كلونهِ العنفواني وكتلته الجامحة. ففي عمق اللون الحارّ، والتركيب الشكلي المتوتر، يجري تيّار صافٍ من الصداقة المعتَّقة والحنان الأليف لذكرى أهمّ زائرينِ تردّدا على الاستديو المعلّق في أضلاع السوق القديم هما: الفنّان المهاجر هاشم حنون والشاعر الراحل إلى آخرته حسين عبد اللطيف.

وعلى أثَرَي هذين الصديقين دسستُ خُطاي الصاعدة إلى مرسمه أكثر من مرة لكي استلهم وحياً لقصتي "الرسام النائم" فلم أظفر بغير خيال من مرسم جبران خليل جبران. لقد تماهى المرسمان "العشًاري" و"الجبليّ" ليسندا وجهاً هارباً إلى ظلال حديقة خضراء من حدائق العالم، يتأمل في خلوتها اضطرامَ جمرات الحروب وفوضى العلاقات السفلى حول السقوط الأكبر، نهاية القرن. لكن هذا الوجه الحدائقي الغريب، ما لبث أن ضاع في عاصفة من التجريب الشكلي للوحات عبد الملك عاشور، وتفاصيلها الكثيرة المُنتزَعة من متاهة مدن العصر الكئيبة. ازداد الوجه غربة وكآبة بينما أطبقت عليه صبغة الألوان المحتدمة وخنقته.
 
تداخلَ الأخضرُ الذي ظلّلَ وجوهَ "المجدليّات" في حلم جبران، مع الأصفر الكدِر الذي صبغ وجوهَ بائعات السمك في أسواق "العشّار" السفلى، مختلطينِ بانهمارٍ شِعريّ كان جبران قد اختزنه لكائنات حديقته المصطفاة، فانتقل منها إلى قصتي، بانهمار سرديّ مقابل. خلطَتْ قصةُ "الرسام النائم" بين لوحات العروج الجبرانية وأسطورة المرأة المرضِع التي يحتوش طفلَها المضموم لصدرها ضبعٌ أرول، يكشّر عن أنيابه، هي نسخة من تمثال سومري أعاد تصويره الفنان "عبد العزيز الدهر" في لوحة معاصرة. كان التمثال القديم قد مَسَخَ وجهَ الأمّ في شكل مخلوق دميم، في حين أنّ الوقت الذي أدركتْه المرأةُ في لوحة "الدهر" يُنذِر بنهوض المسوخ والضّباع من مرايا الأحلام الراجعة من نوم التاريخ العراقي المتقطِّع. وفي ليل الأحلام الموحِش هذا، سال الأحمرُ القاني من استوديو عبد الملك العاشور ليملأ الخلفية المغيّبة لبرّية الصراع بين كائنات السوق الضعيفة ضد الوحوش الواثبة بغرائزها ولعابها السائل من أشداقها. كان التحويل والتصعيد والتناقل بين اللوحات والأحلام معقّداً وطويلاً مثل حلم مُبتكر من حديقة جُبران الألفيّة. ولو أنّ لي قصداً أبديه هنا_ رغم تأخّره_ فسأهدي قصة "الرسام النائم" الى "العاشور" أيضاً، إضافة إلى إهدائها للفنان "الدهر" ملهمها الأوّل، فكلاهما ساعدَ على تجلّي الجميل من القبيح، والمنير من المظلم، والحاضر من الماضي البعيد. ويظلّ هذا التمركز في عقدة الرسم والتصوير أساس بناء سردياتي كلّها.

الآن أستطيع أن أتكلّم عن أهمية المحترفات الخاصة للفنانين، وتمركز حضورها في تجارب الأدباء وإمدادهم بصور وأحلام يعزّ اقتناصُها من الواقع، حيث الرقابة السلطوية والسلوك الجمعي على أشدّهما وافتراسيتهما. أشير هنا باعتزاز بالغ إلى محترفات "العشار" الفنية، تلك التي حمَلَت جدرانُها ساعات الوقت السائح، كلونٍ جارف يصبّ في الأعماق السفلى للأزقّة الضيّقة، والمجرى العكر للنهر، ويرشّ رذاذَه على الوجوه السُّمر النحيفة القادمة من الأرياف. أتذكّر الاتجاهات التي تحدّها استوديوهات (جبار داود العطية وأدهم إبراهيم وناصر الزبيدي وعبد الملك عاشور وجاسم الفضل وعبد العزيز الدهر وصبري المالكي وعيسى عبد الله وشاكر حمد وشاكر محمود وحسين النجار) على خارطة الألوان والأحلام والحدائق. ولا يزال استوديو عبد الملك عاشور يشير إلى الجهة الوحيدة الناجية من محرقة القرن العسكرية، الحديقة المنفردة بذاتها في قلب الحركة اليومية للنماذج البشرية، التي قد نعثر بينها على الأمّ السومرية الممسوخة، تحمل طفلَها وسط مجموعة الضّباع النابعة من تحت الجدران..

(الصور: نماذج من لوحات المدينة لعبد الملك عاشور، يضاف إليها لوحة الأمّ المرضع لعبد العزيز الدهر)
(*) مدونة نشرها القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها