الجمعة 2021/09/17

آخر تحديث: 11:45 (بيروت)

"قوة الكلب"لجين كامبيون.. ذكورة تتغلغل في كل شيء

الجمعة 2021/09/17
increase حجم الخط decrease
سينمائياً، ساهمت أفلام الويسترن خلال السنوات الذهبية لهوليوود، في صياغة أسطورة الحلم الأميركي، أكثر من أي نوع فيلمي آخر. في بيئاتٍ مفتوحة ومساحات لا أفق محدداً لها، في السهول الصخرية للغرب الأميركي، عاش أبطالها ومآثرهم، وصاروا منذ زمنٍ تمثيلاً لما تريده الولايات المتحدة لبقية العالم. مات الحلم، ومات الويسترن. لم يعد للنوع الفيلمي تلك الفورة والازدهار الذي عاشه بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن العشرين. في البداية، فكّكت "هوليوود الجديدة" الأساطير المؤسِّسة للحلم الأميركي، ثم في ظهوراتها المعاصرة اللاحقة، المتقطعة لكن الممتدة، انقلب الويسترن على أصوله ولبَسَ جلداً لم يعرفه من قبل. جين كامبيون، التي تجرّب حظوظها للمرة الأولى في هذا النوع المتجدّد بفيلمها الأخير "قوة الكلب"(*)، تلائم جيداً هذا الأخدود الموضوعي والمظهر الجديد الذي يطبع سينما الويسترن، فتعيد كتابة معالمه في ضوء سينماها وعوالمها.

الفيلم المتوّج مؤخراً بجائزة أفضل إخراج من مهرجان البندقية السينمائي، يدشّن عودة كامبيون إلى صناعة الأفلام بعد 12 عاماً من فيلم "نجمة ساطعة" (2009). يأخذ العديد من الصور الويسترنية النمطية، لا لتمجيدها كما كان الأمر قديماً، بل لإبراز تناقضات عصر أسطوري في قصصه، لكنه في حقيقته مأسوي وعنيف وسامّ. هناك راعي البقر خشن الطباع، المتأتية خشونته من قسوة تجاربه الحياتية، وهناك الشاب اليافع الهشّ الذي يجب "تخشينه" وتعليمه الحياة العملية الصعبة للرعاة، لكنه ربما يخفي حياة جنسية غير مقبولة في ذلك الوقت، ثم هناك الزوجة المثالية التي تدمن الكحول بسبب الاكتئاب. هذه كلها شخصيات يمكن العثور عليها في أي ويسترن من الماضي، لكن كامبيون توضّح المشكلات التي كانت يوماً مخفية أو حتى تُزال من القصّة أساساً. التجديد الموضوعي لا يعني بالضرورة عملاً إبداعياً مكافئاً بالطبع، لكن الموهبة البصرية للمخرجة النيوزيلندية تمنح لحظات كثيرة من الجمال العظيم عندما تتمكن من اللعب بين خشونة الشخصيات وصقل العلاقات، ما يُعبَّر عنه أحياناً بحدّ أدني من السرد أو التفاصيل المرئية.


يطرح أحد المَشاهد الأولى حالة من العنف الاجتماعي، لا تلخّص فقط الأطروحة الرئيسية للفيلم، وإنما تقدم أيضاً وصفاً وافياً لبعض الثوابت في فيلموغرافيا المخرجة: رجل "ذكوري للغاية" ينظر باشمئزاز واحتقار إلى أعمال وتصرفات صبي يراه "مخنثاً"، وبطبيعة الحال عليه أن يجعل ذلك معلوماً لرفاقه/عمّاله الذين لا ينفصلون عنه، والموكل إليهم تنفيذ الأعمال القاسية؛ يستدعي قسوة وإرادة الذكر المهيمن، ليستهزئ بالفتى المسكين بسخرية وقحة تترك والدته باكية في المطبخ.

نحن في حانة قذرة، في قلب ولاية مونتانا، في أوائل القرن العشرين. المكان المثالي والوقت المثالي لإعادة تأكيد المرء لرجولته، لترسيخ نفسه في الذكورة الأكثر سُمّية. تكيّف كامبيون رواية توماس سافاج، بالعنوان ذاته، من العام 1967، لإنجاز فيلم عن شخصيات عالقة داخل نفسها تهيمن عليه إيروتيكية مكتومة واختبارات مختلفة للرجولة وسط بيئة منعزلة وقاسية وساحرة. قصة شقيقين متناقضين (جورج الأكبر ويقوم بدوره جيسي بليمونز، والأصغر فيل ويمثّله بنديكت كومبرباتش)، وكيف يتعاملان مع ضغط "الاضطرار لأن يكونا رجوليَين"، وامرأة (كيرستين دانست) تسعى للأمان في خضم حماية ابنها الوحيد (كودي سميث ماكفي) من عالمٍ تعتقد عدم مقدرته على خوضه. دراما معدّة بعناية وباذخة بصرياً وسمعياً، حيث يبدو جوني غرينوود وقد نفض الغبار عن مقطوعاته المؤلفة لفيلم "سيكون هناك دماء" (2007، بول توماس أندرسون)، كما تذكّرنا "باليت" الألوان السوداء والبنية لكاميرا آري فاغنر بأسلوب الرسّام أندرو وايث.

أمزجة ونغمات لعالم قاسٍ قاحل وغامض. في تلك الجغرافيا الدافعة للشعور بالوحدة، لا يسمح الأخ الأكبر لنفسه بالبكاء إلا في حضور التواطؤ المأمون لزوجته الحنون؛ فيما الآخر، يلجأ إلى مخبأ في الغابة (يُذكرنا مدخله بالنفق الذي عبر من خلاله أبطال "جاري توتورو" إلى عالم الخيال)، بعيداً من عيون الآخرين، ليُظهر نفسه أخيراً كما هي. فضاءات ولحظات مكنونة في مأمن من عالم دنيوي لا يرحم، لقطات مفصّلة تعزل الأرواح الحسّاسة عن كل محفزات إزعاجها وتشتيتها.

تذهب جين كامبيون إلى منطقة ذكورية للغاية، أرض رجال يحرقون ويلوّثون كل شيء في طريقهم. يجدر بنا تذكّر أننا في عصر "التقدّم"، الذي ضمن ملكية ما كان يوماً أرضاً عذراء. من الطبيعي أن يكون كل ما يحدث على الشاشة مشروطاً بالتأثير الخبيث وغير المنفصل لأولئك الشاعرين بكراهية فطرية تجاه أي دافع/ملمح أنثوي. لكنه، حتى هنا، ما زال يُدافَع عن التعاطف والتفاهم تجاه مَن لا يستحقون ذلك من حيث المبدأ، وهو أمر يمكن ملاحظته عندما يتعلق الأمر بتفعيل خيار العمق النفسي والغوص داخل الشخصية، الممنوح فقط - على ما يبدو - لأولئك المتسببين في أسوأ الشرور.

ثمة ميزة أساسية في تلك السينما التي تخلط بين نقاط الضعف والقوة، أو التي تهيمن عليها انقلابات الحبكة بطريقة بطيئة وحثيثة، حتى إنها تحوّل الفيلم أحجية يشارك المتفرج في إكمالها. الأمر يتعلّق بشعور متنامٍ بعدم القدرة على التنبؤ بما سيحصل لاحقاً، والذي كان يعدّ علامة تجارية لأفلام النوع. وهنا تجدر العودة إلى عنوان الفيلم، المأخوذ بدوره من الكتاب المقدس، "أنقذْ روحي من السيف، إحفظْ قلبي من قوة الكلب"، للإشارة إلى رغبة جسدية مخبأة تحت المظهر الخارجي القاسي لراعي بقر يتصرف مثل الفتوة بسبب تعرُّضه للقمع الجنسي. لكن، وإن كان استخدام التعبير من قبيل التأكيد على غريزة حيوانية لا يمكن لأي حجة عقلانية الوقوف ضدها، فالسيء في الأمر هو ما يحدث بتطوَّر الفيلم، إذ يعمل كعلامة مرهقة على التيه، من عدم معرفة الفيلم إلى أين يذهب، أو ماذا يقول أبعد من عنوانه. وهنا أيضاً يتضح تأثير "نتفليكس"، إذ ينقسم السرد الموسّع للفيلم إلى فصول مرقّمة، وفي بعض الأحيان يبدو أن كلاً منها جمعه شخص مختلف، من دون إخبار أي منهم بالخطة الرئيسية أو الخطوط العامة الواجب اتباعها.

بغض النظر، ففي هذه الدراما الثلاثية المتوترة (تبدو شخصية الأخ الأكبر مستبعدة من أي صراع داخلي)، تسود متلازمة أوديب: يجب على "فيل" تحرير نفسه من شخصية المعبود المبجّل وسيد رعاة البقر (الراحل برونكو هنري الذي لا يظهر أبداً)، ويجب على الأمّ السماح لابنها بخوض تجربته وتدريبه الذكوري، والأخير، عليه فصل نفسه عن والدته بإثبات قدرته على السير في طريقه الخاص. لكن حتى هنا، لن يُتّبع المسار الفرويدي بالضبط، فليس كل شيء كما يبدو.

يمكن لإيماءة بسيطة في بعض الأحيان إعادة رسم شخصية. مع ذلك، في فيلم مدته تزيد عن الساعتين، يبدو أن هذه الأجزاء المكونة لتجربة سينمائية ممتازة، تتشتت، وفي نهاية الفُرجة يصعب فهم ما كان محور ما شاهدته. فالفيلم يشرع في سرد ​​شيء ما (شخصية، رابطة، علاقة غرامية)، فقط ليبدأ قصة أخرى قبل الوصول إلى نقطة ما. بالتأكيد هو دراما نضوج مضادة للرَمْنسة، وقد يكون هذا هو جوهره: كيف يكبر صبي هشّ وحالم، مطبوعاً بذكورة سامّة لا تنتمي إليه. لكن هذا الموضوع لا يظهر إلا في الجزء الأخير، مع أخذ المساحة لأجزاء أخرى من القصة (علاقة أخوية غير صحية، امرأة مجبرة على العيش في حياة لا تريدها...)، بحيث لا أحد يملك الوقت للتطور على النحو الذي يستحقه.

هذا الويسترن الميلودرامي، الذي يراهن على لعبة التخفّي والإخفاء، يقع في التناقض القاتل المتمثل في إبراز إيماءات وتفاصيل ينتهي بها الأمر إلى كشف الطبيعة الحقيقية لشخصياتها. هذا النقص في التفاصيل، المدروس جيداً، ميّز الكثير من أعمال كامبيون السابقة، لكنه هنا يصير فخّاً يلعب ضد روح القصة. كما لو كان تطويرها وحلّها مكرسين لتشويه الطريقة التي صوّرت بها؛ وكأن الفيلم أسير الشكوك والمتلازمات نفسها لتلك الذكورة الهشّة/الخطرة التي، للأسف، تتغلغل في كل شيء. رغم ذلك، فلا يمكن الحديث عن فيلم فاشل. هناك الكثير من العناصر المثيرة للاهتمام، وعملية عرض مسرحية دقيقة للغاية، بحيث لا تجد أي عيب فيها، لكن الانطباع الأبقى أن الفيلم يفتقر إلى التماسك الذي يضيع ولا يُعثر عليه مرة أخرى، ولا حتى النهاية الجيدة قادرة على تغييره.

(*) متاح حالياً للمشاهدة عبر "نتفليكس".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها