الثلاثاء 2021/09/14

آخر تحديث: 12:59 (بيروت)

عيد الصليب في الميراث الإسلامي

الثلاثاء 2021/09/14
increase حجم الخط decrease
يحتفل المسيحيون اليوم بعيد الصليب، وفيه يحيون ذكرى "رفع الصليب في كل العالم". بحسب الرواية الأرثوذكسية المعتمدة، ظلّ صليب المسيح مخفياً في الأرض إلى أن عثرت عليه هيلانة أم الملك قسطنطين سنة 325، "ولما رآه الشعب مرفوعاً على المنبر من مكاريوس الأسقف الأورشليمي وقتئذ، صرخ قائلاً: يا رب ارحم".

يتردّد الحديث عن هذا العيد في كتب التراث حيث نقع على روايات عدية تتقاطع بشكل كبير، غير انها تختلف في التفاصيل. في "الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة"، ينقل ابن شداد عن "أصحاب تواريخ الروم" ان قسطنطين "لما صار الملك إليه، طوّعت له نفسه أن يبني مدينة يجعلها مقر ملكه، ومركز سلطانه، فخرج من رومية، وسار إلى أرض بوزطا (أي بيزنطيا)، فبنى فيها مدينة، وسماها القسطنطينية باسمه، وصار يغير على بلاد برجان لما جاورهم (وهي بلاد غائصة في جهة الشمال)، فكانت الحرب بينهم وبينه سجالاً، نحواً من سنة، إلى أن كانت عليه، فقتل من أصحابه خلق كثير، وخاف البوار، فرأى في النوم كأنّ رماحاً نزلت من السماء، فيها أعلام على رؤوسها صلبان من الذهب والفضة والحديد والنحاس. وقيل له: خذ هذه الرماح وقاتل بها عدوّك، فجعل يحارب بها في النوم، فرأى عدوّه منهزماً بين يديه، فاستيقظ من رقدته، ودعا بالرماح، وركب عليها صلباناً ورفعها على عسكره، وزحف على عدوّه فكسره".

رأى قسطنطين إشارة الصليب في المنام، وجعل منها شعاره في الحرب، وانتصر، ثم "سار إلى بيعته، وسأل عن تلك الصلبان، فقيل له إن بيت المقدس مجمع لهذا المذهب. فبعث إلى بيت المقدس وأحضر ثلاثمائة وثلاثة عشر أسقفاً فعرّفوه دين النصرانية، فرجع إليه وترك اليونانية، وأمر رعيته بمتابعته على النصرانية. ثم خرجت أمه هيلانة إلى الشام، وبنت الكنائس، وصارت إلى بيت المقدس فبنته، وعمّرته، وزخرفته، وطلبت الخشبة التي صُلب عليها المسيح، بزعمهم، فحلّتها بالذهب، واتّخذت لوجودها عيداً، وهو عيد الصليب".

شبه الصليب في السماء
في "المختصر في أخبار البشر"، يتحدث أبو الفداء عن "أمّة النصارى، وهم أمّة المسيح"، ويقدّم تعريفاً بأبرز فرقهم، ثم يذكر أعيادهم، ومنها "عيد الصليب، وهو مشهور"، كما يقول. وفي "تتمّة المختصر"، يستعيد ابن الوردي هذا التاريخ، ويذكر قسطنطين المظفر الذي تولى الملك إحدى وثلاثين سنة، وفي السنة الثالثة من ملكه "انتقل من رُومِية إِلى قسطنطينية، وبنى سورها وَتَنصّر"، ثم يضيف: "وزعمت النَّصارى أَنه بعد ستّ سنين خلت من ملك قسطنطين ظهر لَهُ في السّماء شبه الصلِيب، فَأمر بالنصرانية. وفِي إحدَى عشرة سنة من ملكه سارت أمه واسمها هيلانة إِلَى القدس، وأخرجت خشبة الصلبوت (أي الصليب)، وأقامت لذلك عيدا يُسمى عيد الصليب". بعدها قام قسطنطين وأمّه بتدشين كنائس عدة، منها كنيسة القيامة.

في "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر"، يتحدّث ابن خلدون بدوره عن قسطنطين "باني المدينة المشهورة"، ويضيف: "وكانت أمّه هيلانة صالحة، فأخذت بدين المسيح لاثنتين وعشرين سنة من ملك قسطنطين ابنها، وجاءت إلى مكان الصليب فوقفت عليه وترحّمت وسألت عن الخشبة التي صُلب عليهما بزعمهم، فأُخبِرت بما فعل اليهود فيها وأنهم دفنوها وجعلوا مكانها مطرحا للقمامة والنجاسة والجيف والقاذورات، فاستعظمت ذلك واستخرجت تلك الخشبة التي صُلب عليها بزعمهم، وقيل من علامتها أن يمسها ذو العاهة فيُعافى لوقته، فطهّرتها وطيّبتها وغشّتها بالذهب والحرير، ورفعتها عندها للتبرّك بها، وأمرت ببناء كنيسة هائلة بمكان الخشبة، تزعم أنها قبره".

يعود ابن خلدون إلى هذا الحدث، ويقول: "جاءت هيلانة أم قسطنطين لزيارة بيت المقدس، وبنت الكنائس، وسألت عن موضع الصليب فأخبرها مقاريوس الأسقف إنّ اليهود أهالوا عليه التراب والزبل، فأحضرت الكهنونيّة (أي كهنتهم) وسألتهم عن موضع الصليب وسألتهم رفع ما هنالك من الزبل، ثم استخرجت ثلاثة من الخشب، وسألت أيتها خشبة المسيح، فقال لها الأسقف: علامتها أنّ الميت يحيا بمسيسها، فصدّقت ذلك بتجربتها، واتخذوا ذلك اليوم عيداً لوجود الصليب". بنت هيلانة عند هذا الموقع كنيسة القيامة، "وأمرت مقاريوس الأسقف ببناء الكنائس، وكان ذلك لثلاثمائة وثمان وعشرين من مولد المسيح عليه السلام".

صليب من نور
تتقاطع هذه الروايات المختلفة مع الرواية المسيحية الأصليّة التي تشكل أساسا لها. وُلدت الكنيسة في أورشليم، وعُدّت كنيسة أورشليم هي الكنيسة الأمّ لليهود الذين دخلوا في المسيحية أولاً، ثمّ للعالم المسيحي كله حيث عُرفت بـ"أمّ الكنائس". في بداياتها، نمت هذه الكنيسة الناشئة على أيدي الرسل، وضمّت عدداً من الكهنة وسبعة شمامسة، وكان يعقوب الرسول رأسها. قفز عدد أعضاء كنيسة أورشليم في ذلك الزمن من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف (أعمال 4 : 4)، وانتشرت سريعاً في جميع أنحاء فلسطين حيث سكن قسم كبير من تابعيها في مدينة أورشليم.

اختار الرسل بالإجماع يعقوب البارّ أسقفاً على أورشليم، فتولّى أمور الكنيسة حتى استشهاده سنة 62، فخلفه أخوه سمعان بن كلوبا الذي أدار أمور الكنيسة في مرحلة عصيبة، واضطر المسيحيون في عهده إلى الانتقال من أورشليم إلى مدينة بيلا التي تُعرف اليوم ببلدة طبقة فحل، في لواء الأغوار الشمالية. فقدت كنيسة أورشليم بريقها بسبب تحول الأوضاع السياسية، غير أنّها عادت واستعادت مركزها الريادي في القرن الرابع حيث اتّجهت أنظار المسيحيين إليها من مختلف الأقطار باعتبارها أرضاً مقدّسة.

في 313، أصدر الأمبراطور قسطنطين الأكبر مرسوم ميلانو الذي قضى بإضفاء الشرعية على العبادة والشعائر المسيحية، ثم ناصر الكنيسة، وشرع في بناء الكنائس والمعابد في المواقع التي شهدت موت المسيح وقيامته وصعوده إلى السماء، وجاءت والدته هيلانة إلى فلسطين لتشرف بنفسها على بناء هذه الهياكل. عاصر يوسابيوس أسقف قيصرية فلسطين هذه المسيرة ونقل أخبارها في كتابه "حياة قسطنطين العظيم". اختار الأمبراطور قسطنطين المسيحية ديانة له، ورأى وهو يصلي "صليبا من نور في السماء، فوق الشمس" (1: 28)، مع كتابة تقول "بهذا تغلب"، فصنع راية الصليب، وأمر بأن تُرفع على رؤوس كل جيشه، وتمّ له النصر في كل مكان وُجدت فيه هذه الرّاية.

سار قسطنطين على هذه الدرب، وأصدر أمراً بإقامة بيت للصلاة في المكان المقدّس الذي شهد قيامة المسيح، "ولم يفعل هذا بباحث من تفكيره الشخصي بل لأن المخلص نفسه حرّك روحه" (2: 25). وأمر بالكشف عن "هذا الأثر المبارك المقدس" (2: 28)، ثمّ "أمر ببناء بيت للصلاة في غاية الفخامة، يليق بعبادة الله، وذلك بجوار قبر المخلص"، "وأعطى الأوامر لحكّام الأقطار الشرقية ليبذلوا كل ما في وسعهم للإنفاق بسعة حتى يتمّ البناء بغاية الفخامة" (2: 29)، وطلب بأن يفوق هذا البناء كل كنائس العالم، وبناء على هذه التعليمات "بُنيت أورشليم الجديدة في نفس الموقع الذي شهد آلام المخلص، بدلا من تلك اشتهرت قديما" (2: 33).

بعد ذلك، عمد الأمبراطور إلى الكشف عن المكان الذي شهد ميلاد المسيح، والمكان الذي شهد صعوده إلى السماء، وأمر بإقامة كنيسة في بيت لحم وأخرى في جبل الزيتون، وزيّنهما بمنتهى الفخامة، وخلّد بذلك ذكرى أمه هيلانة التي أسرعت "لتجوب في هذه الأراضي المباركة، بالرغم من تقدّم سنها" (2: 42)، "وقدّمت الإكرام اللازم للأرض التي وطأتها قدما المخلص"، "وخلفت ثمار تقواها للأجيال القادمة"، و"كرّست كنيستين لله الذي كانت تعبده، واحدة عند المغارة التي شهدت ولادة المخلص، والأخرى على جبل صعوده" (2: 43).

لا يشير الراوي يوسابيوس إلى دور هيلانة في الكشف عن الصليب، غير أن هذا الدور يظهر بقوة في كتابات تعود إلى نهاية القرن الرابع، وهي الكتابات التي تبنّتها الكنيسة وكرّستها بشكل ثابت منذ ذلك التاريخ. نُسجت حول هذه الروايات أخبار عديدة، وتردّد صدى هذه الأخبار في الروايات العربية اللاحقة التي نقلها المؤرخون المسلمون كما يبدو.

الصور الأولى
في الفن المسيحي، ظهرت صورة اكتشاف الصليب ورفعه في فترة متأخرة نسبيا، إذ لا تجد لها أثرا في القرون الأولى. تحتفظ المكتبة الوطنية الفرنسية بمخطوط يوناني أُنجز في القسطنطينية بين 879 و883، يحوي مجموعة من عظات القديس غريغوريوس النزينزي يزيّنها عدد كبير من المنمنمات. تحضر قصة اكتشاف الصليب في منمنمة كبيرة تحتل صفحة كاملة من المخطوط. تتألف هذه المنمنمة من ثلاث صور متساوية في الحجم. الصورة التي تحتلّ القسم الأعلى تمثل حلم قسطنطين. والصورة التي تحتل القسم الأوسط تمثل انتصاره في المعركة في ظل "صليب من نور في السماء، فوق الشمس". أما الصورة الثالثة فتمثّل الأمبراطورة هيلانة واكتشاف الصليب في حضور الأسقف مكاريوس كما تقول الكتابة المدونة على هامشها.

من جهة أخرى، يظهر مشهد رفع الصليب في منمنمة من مخطوط آخر من القسطنطينية يحمل اسم الأمبراطور باسيليوس الثاني، وهو من محفوظات مكتبة الفاتيكان. تعود هذه المنمنمة إلى نهاية القرن العاشر، وتمثّل الأسقف مكاريوس فوق المنبر رافعا الصليب وسط أربعة من رجال الكنيسة.

رفعت الكنيسة قسطنطين وهيلانة إلى مصاف القديسين، وهما في التقليد البيزنطي "القديسين العظيمين في الملوك والمعادلي للرسل". تظهر الصورة الأيقونية لهذين القديسين في تلك الحقبة، وتتكرّر إلى ما نهاية في القرون التالية، وفيها يظهر الملكان وهو يرفعان الصليب الذي يحتل وسط التأليف. وتختزل هذه الصورة قول الكنيسة في عيد القديسين المُقام في 20 أيار: "اليوم قسطنطين مع هيلانة أمه، يظهران لنا الصليب، العود الكليّ الوقار، الذي هو خزي لجميع اليهود، وسلاح للملوك المؤمنين على الأعداء، لأنه ظهر لأجلنا، آية عظيمة ورهيباً في الحروب".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها