لا شكّ أنّ قراءاتنا الأولى، الموجَّهة مدرسيّاً، ثمّ غير الموجَّهة، قد تركت أثرها في شخصيّتنا اللدنة وساهمت إلى حدٍّ بعيد في تشكّل نظرتنا إلى الحياة. أولى الروايات التي أثّرت فيّ كانت "بول وفيرجيني"، ومن لم يتأثّر ولم يكوّن من خلالها نظرته الأوّليّة إلى الحب الطاهر والصادق الذي عرف فيه الحبّ الرومنطيقي في ما بعد، وتأتي من بعدها مثلاً "الأجنحة المتكسّرة" وغيرها من الروايات الرومنطقيّة التي تركت ولا شكّ، إضافة إلى أثرها العاطفي، أثراً نفسيّاً وزرعت فينا بعداً أخلاقيّاً متمثّلاً بالصدق في الحبّ والإخلاص والوفاء، عشناه وطبّقناه بصدق في مرحلة من شبابنا، قبل أن تتطوّر مفاهيمنا شيئاً فشيئاً مع تشكّل وعينا السياسيّ والاجتماعي. ربما تكون رواية "مدام بوفاري" هي التي وضعت مفاهيمنا على المحكّ. وهل تعاطفنا في جانبٍ ما مع "إيما" في خيانتها زوجها، في فعل إرادي أو إنسياقيّ، نتيجة إهماله لها، يصنّف في باب التردّي الأخلاقيّ. وهل تكون الرواية قد صنعت رأينا وموقفنا؟ والأمر نفسه ينطبق على رواية "آنا كارينينا". صوّر فلوبير وتولستوي، في سياقات إجتماعية محدّدة، تفاعلات المرأة الشابة نفسانيّاً، وحاجتها وسط الحرمان كغيرها من الكائنات الحيّة، إلى عيش الحياة التي تحتاجها، وهو ما يدفعها إلى الانسياق لأحاسيسها وميولها، وإلى الاندفاع من دون وازع ولا خوف وراء شهواتها وإقامة علاقات خارج مؤسّسة الزواج، وهو ما يُعتبَر اجتماعياً ودينيّاً فعل "خيانة". فهل هما يشجّعان بذلك على الخيانة الزوجيّة، وهل قراءتهما تدفع في هذا الاتّجاه؟ ألا يمكننا القول بالعكس، إنّ هذا النوع من الروايات، قد أدّى دوراً أخلاقيّاً إنسانيّاً سامياً إذ هيّأ لفرض حقوق المرأة وحرّيتها ومساواتها بالرجل في العصور اللاحقة.
يوصلنا ذلك إلى العصر الحديث حيث، مع اكتساب المرأة حرّيتها وحقوقها، ومع تراجع التأثير الدينيّ في أوروبا وأميركا، توسّع وتعمّق الأديبات والأدباء في التعبير عن المشاعر والأحاسيس، وتجرّأوا أكثر، في تصوير العلاقات الغراميّة، على التعبير الجنسيّ الصريح من دون إحراجات، متأثّرين ومؤّثرين بدون أدنى شك بفنّ السينما الطارئ. فإذا كانت الكاميرا تسمح بتصوير الحميميّات ونقلها، فلماذا لا يكون الأدب كذلك. وأساساً، عبّر الأدب عند كلّ الشعوب عن هذه الحميميّات، لكن الوازع الأخلاقيّ، الديني والاجتماعي، عتّم على تلك الآثار وحاول جاهداً إبقائها خارج المتناول خصوصاً للأجيال الصغيرة، ولا حاجة بنا للعودة إلى الموقف من أبي نواس وأمثاله في أدبنا العربيّ. لكن ما يهمّني قوله إنني كقارئ لم يهمّني يوماً أي عملٍ أدبيّ لما فيه من تصوير إيروتكيّ متجرّئ، إلا بمقدار ما يخدم هذا النوع من الوصف والتفصيل المادّة الروائية وفكرتها، ولا أجد ضيراً في ذلك طالما الأديب يوظّف ذلك في خدمة فنّه. أمّا إذا أنحرف الكاتب عن الغاية الفنّية وتوخّى الإثارة وحسب، بغية إثارة الاهتمام به وبأعماله، أو لغرض التسويق، فعندها أشعر صراحة بشيء من الاشمئزاز والقرف، وأرى هنا أن العمل يتنافى، ليس مع الأخلاق وحسب، بل مع القيم والمعايير الفنّية المفروضة في كلّ عمل يستحقّ تسمية "العمل الفنّي". والفرق هنا شبيه تماماً بما نراه في السينما، ما بين الأفلام الإباحية، الإيروتيك والبورنو، الذي يتّخذ الجنس الرخيص والسخيف والرديء غاية في ذاته، وبين المشاهد الجنسيّة الجريئة التي تأتي في سياق حبكة الفيلم وتخدم فكرته وواقعيّته وجماليّته من دون توخّي الرخص والابتذال.
أمّا في النواحي الأخلاقيّة الأخرى فلا شكّ أنّنا نلمس في ما نقرأ غايات الكتّاب الإصلاحيّة، يعبّرون عنها مباشرة (وهذا أسوأ الأنواع) أو يلمّحون إليها ويوحون بها. ليس المهمّ هنا القول إنّني أجاري الكاتب في آرائه أو أعارضه، فالقارئ الواعي الذي حقّق حدّاً معيّناً من الثقافة، يبني موقفه بنفسه ثم يعرف كيف يقوم بعملية الفرز والإختيار، فإما يوافق الكاتب في آرائه وإما ينقدها ويصوّبها لنفسه أو يرفضها. يستطيع جوناثن ليتل في روايته "الرحيمات" أن يحرّك مشاعري تجاه ما لاقاه اليهود في أوروبا على يد النازيّة، وأن يحملني على التعاطف أخلاقيّاً وإنسانيّاً مع قضيتهم هناك كما على رفض النازيّة وأشباهها، لكنّه لا يستطيع تغيير رأيي في ما خصّ اعتداء اليهود الصهاينة على الفلسطينيين واغتصاب أراضيهم وإنزال شتّى أنواع العسف والظلم بهم.
(آنا كارينينا)
وتقضي الموضوعية الاعتراف بأنّ أحداً لا يمكنه الإدّعاء أنّه في منأى عن التأثّر سلباً أو إيجاباً بما يقرأ، وأنّ الأدب ساهم في مراحل معيّنة في تكوين نظرته الأخلاقيّة إلى العالم. لكن يمكن القول بأنّ الإنسان يتبدّل ويزداد وعيه ويتبلور مع الوقت ويصبح قادراً على تقبّل أو رفض ما يطرح عليه عندما يقرأ. أذكر أنّني، في مرحلة ثورتنا الشبابيّة ومثاليّتنا، لم أحبّ نزار قبّاني، باعتبار أنّه يستعبد المرأة ويستغلّها عبر التركيز على جسدها ومفاتنها والتغني بها بجرأة. لكن شيئاً ما تغيّر فيّ جعلني لاحقاً، خصوصاً وأنا أدرّس قصائده لطلابي، أرى فيه محرّراً للمرأة ومطلقاً لمشاعرها. هناك ما تغيَّر فيّ بلا أدنى شكّ، لكن هناك ما زاد في علمي وثقافتي الأدبيّة، جعلني أنظر في الناحية البنيويّة والجمالية في قصائده وليس في الموضوع فقط، وهذه الناحيّة الجماليّة حملتني على التأثر الإيجابي به.
هي إذن زاوية النظر التي تحكم نظرتنا إلى الأثر الأدبي وتقييمه، وهي تتأتى من مصدرين، القارئ والنصّ بحدّ ذاته.
فالقارئ ينظر في النصّ من خلال ما يؤمن به من قِيَم، والحال أنّه لا يمكنه ان يتوقّع من الكتاب بطروحاته الأخلاقيّة أن يكون متوافقاً ومتماشياً مع آرائه وقيمه، وبالتالي يفترض به أن يكون موضوعيّاً ومنصفاً في تقييمه العمل الأدبي الذي بين يديه، فلا يقبله بشكلٍ أعمى ولا يرفضه بشكلٍ تعسّفيّ. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى تأثير "اسم" الكاتب صانع النصّ، أعني مدى نجاحه وشهرته. قد يكون تأثيره إيجابيّا، لكن الخطر هو في تقبّل كل ما يصدر عنه، فكريّاً كما فنّياً، بشكلٍ أعمى فقط لمجرّد كونه صادراً عن هذا الكاتب نفسه.
أمّا النًص فهو أكثر ما يعنيني في قراءاتي. أوّلاً كلّ نصٍّ، أيّاً كان صاحبه، يعالج فكرة أو أكثر عن العالم الذي نحن فيه، وهذه الفكرة تتمثّل أو تتجسّد في حالة معيّنة في مكان ما وزمانٍ ما، ولذلك هو موضع تقييم فنّي أولاً وفكريّ، وليس بالضرورة تقييماً أخلاقياً، فليس بالضرورة أن يستهدف الكاتب في عمله النواحي الأخلاقية، وإذا ما تعمَّد ذلك فلا يعني أنّ نصّه أكتسب قيمة مميَزة، وأسوأ أنواع النصوص هي التي تتوخّى الوعظ والإرشاد المباشرين، وبالنسبة إليّ هي تفقد تأثيرها، فإذا كانت صالحة ومفيدة في مراحل معيّنة، كما في بدايات عصور النهضة في كلّ مكان، فأنا لا أرى لها تأثيراً ولا لكتبٍ مماثلة في عصرنا هذا. فبراعة الكاتب في نظري تكمن في تركه النصّ يعبّر عن نفسه مفسحاً للقارئ أن يبني أحكامه من خلال الحالات الخاصّة التي تشكّل مادّة روايته. فالعمل الأدبيّ، الروائي بنوع خاص، يجسِّد لنا الحياة مركّزاً على ما هو خاص وفرديّ بعيداً عن التعميم والمبادئ العامّة والمجرَّدة، حتى وإن كانت البشريّة تلتقي على الكثير من المثل العليا وتنظّر لها. فليس عمل الكاتب أن يفرض رأيه، وإلا نفّر القارئ منه، وليس على القارئ كما رأينا أن يقرأ انطلاقاً من مفاهيم خاصّة وجامدة متوقّعاً من النصّ أن يتجاوب مع مبادئه وقناعاته.
وبالمناسبة يكمن الخطر هنا في "تجمّد" هذه المفاهيم وتحجّرها واستعصائها على التطوّر والإصلاح، وفي خوف أصحابها من التخلّي عنها، ومن هنا الدور الرقابيّ الذي يمارس، أو الدعوة إلى الرقابة الذاتيّة، وما ذلك إلا خوفاً من انفضاح ما نحن فيه، أو من ضرب الأسس وخلخلتها إذا ما مسّ الأدب ببعض مفاهيمها ومظاهرها. بهذا المعنى يرى أصحاب هذه المواقف أنّ الأدب "مفسدةٌ"، طبعاً انطلاقاً من معاييرهم الخاصّة. لكن حبّذا هكذا مفسدة إذا كانت ستؤدّي إلى كسر الجمود والمحرّمات بغية إصلاح طوعيّ لا إكراه فيه. فالأدب لا يدين ولا يحاكم مباشرة، كل ما يفعله هو الإشارة إلى "السيّئات" و"الشرّ" في حالاتها المختلفة والإضاءة عليها من جوانب خاصّة بكلّ أديب، على أن يُترك للقارئ حرّية الاختيار والاقتناع. ولا خوف على القارئ، أياً يكن مستواه، من الانجراف وراء رموز الشرّ وممثّليه من شخصيّات روائيّة تجسِّده، حتى وإن أُعجِب بطريقة الكاتب في وصف هذه الشخصيّة وتجسيدها.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الحالات الداخليّة التي نعيشها مع الشخصيّات، ولا يُستبعد أبداً أن نتماهى بشكلٍ ما مع شخصيّة لاأخلاقيّة أقلّه في زمن القراءة، فلا ضير في ذلك، لا بل هذا يشكّل وجهاً من وجوه المتعة في الأدب. ويعيدنا ذلك طبعاً إلى التعامل مع الكتاب، كما مع كلّ أثر فنّي، من ناحية قيمته الفنّية والجماليّة "والأدائيّة" إذا جاز التعبير على غرار ما نشهده في المسرح والسينما توأمَي الأدب. أُعجِب العالم وتمتّع بأداء مارلون براندو في دور "العرّاب" (ثمّ بآل باتشيو لاحقاً)، لكن المعجبين لم يتحوّلوا حكماً زعماء مافيات ولم يتمنّوا ذلك، نجح براندو، بأدائه الرفيع، أن ينفّرنا من الشخصية الإجراميّة، على ما عرانا من متعة ونحن نشاهده يؤدّي الدور.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها