الجمعة 2021/09/10

آخر تحديث: 19:06 (بيروت)

ميقاتي إن وضع السياسة جانباً

الجمعة 2021/09/10
ميقاتي إن وضع السياسة جانباً
ميقاتي في القصر الجمهوري بعد إعلان تشكيل الحكومة (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease
في خطابه الأول أمام اللبنانيين، بعد تشكيل حكومته، قال الرئيس نجيب ميقاتي: "فلنضع السياسة جانباً، الآن وقت العمل". قالها خلال إجابته على سؤال لأحد المراسلين حول ما إذا كان رئيس الجمهورية قد فاز في المحصلة بالثلث المعطل، واعتبر ميقاتي أنه لا بد الآن من وضع "السياسة" جانباً، ومعها كل الكلام عن الثلث المعطل وصيغة "8-8-8"، من أجل التركيز على العمل الكثير الذي ينتظر الحكومة الجديدة. الحكومة التي، بحسبه، ما كان ممكناً تشكيلها من اختصاصيين غير منتمين لأحزاب، وإلا فلن تُيسِّر ما سيتم الاتفاق عليه في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. أي أنها، في قول آخر ستقع فريسة لنكايات القوى السياسية الواقفة خلفها أو غير الممثلة فيها، وهذا اعتراف ليس بسيطاً.

فالسياسة في عُرف اللحظة اللبنانية الراهنة، وفي خطاب ميقاتي، تبدو حبيسة تعريف واحد: نزاع على الحصص وأوراق الضغط وموازين القوى والنفوذ. سياسة الصراعات، المدفوعة طاقاتها النشيطة، بأهداف مصلحية، طائفية في أحسن الأحوال، وشخصية بحتة في أسوئها. علناً، وبعيون مفتوحة تحدق فينا. سياسة من دون أي اعتبار لإرادات الشارع، حاجاته وأزماته، تحتقر العملية الديموقراطية وأبسط مبادئ تداول السلطة والمساءلة والشفافية. بل السياسة التي تقوم كل دينامياتها، وبوعي شخوصها ورموزها، على التحرك في الاتجاه المعاكس تماماً لهذا كله... أي اللاسياسة.

فعلاً، وضع ميقاتي، في كلمته الأولى الموجهة لمواطنيه، هذه السياسة جانباً، رافضاً الكلام فيها. ونحّى معها السياسة البروتوكولية، فلم يقرأ بياناً عن خطة الحكومة، مؤثراً "ارتجال" كلام "شعبي" عن الأطفال والأمهات والآباء. ففي سردية "بالبلدي"، بلا أرقام ولا جداول، استطاع، من خارج البيان المنمق المعتاد، توصيف أزمات المدارس، المحروقات، حليب الأطفال، الهجرة، الفقر، الأدوية، وانهيار الليرة. 

لكنه، عملياً، قال من السياسة – سياسة هذه الحكومة – الكثير، في كلمة مختصرة ومكثفة، تخللها اسم الله مرات، بين أدعية وأقوال حكمة. وللمتلقي أن يستشف من هذه الباكورة بضع استنتاجات أوّلية، يبقى رصد تبلورها في أداء الحكومة الجديدة مهمة أساسية للمقبل من الأيام.

أولاً، بدا ميقاتي واضحاً في سياسة "شد الأحزمة في زمن الهبوط الاضطراري".. فالزمن "لا للترفيه ولا للازدهار". اللبنانيون على موعد مع التقشف والمزيد من تحمل صعاب الحياة في ظل الحكومة التي انتظروا على يديها انفراجات. سياسة "فلنتحمّل معاً"، في حين أن التحمّل ليس هو نفسه في "زيتونة باي" وفي باب التبانة.

ثانياً، سياسة الخطاب العام، الرسمي. السائد الجديد. وتحديداً في التوجه للإعلام، الذي سيكون وزيره إعلامي الملايين، جورج قرداحي. تحدث ميقاتي للصحافيين عن توقعاته من وطنيتهم في المرحلة الآتية: "كلمة بتجنن وكلمة بتحنن.. بدنا نرفع معنويات الشعب ونوقف الإحباط"، وشدد على "المحبة والمودة". فماذا عن النقد؟ رصد العثرات، بموازاة المأمول من الإنجازات؟ وأي إنجازات، ووفقاً لأي معايير؟ المراقبة والمساءلة؟ أي حرية تعبير وشأن عام تحكمهما المحبة؟ وما عواقب مجافاة الحنان يا ترى؟ هل تستمر الدعاوى والاستدعاءات؟ الإعلاميون، ومن خلفهم الرأي العام، على موعد، كما يبدو، مع الكثير من التشويق تحت راية وزير "المسامح كريم" و"بشار الأسد رجل العام".  

ثالثاً، سياسة حكومة تتضمن امرأة واحدة، وبلا حقيبة، وسط ترجيحات بأنها الوزيرة الكمالة للثلث المعطّل المقنّع التابع لفريق رئيس الجمهورية. فكما لا وقت "للسياسة" ولا "للترفيه" ولا "لكلمة إعلامية بتجنن"، أيضاً لا وقت لاعتبارات الكوتا النسائية وحُسن التمثيل الجندري. وربما هنا، للأمانة، نحن أمام سياسة صريحة، وعلى شيء من الصدق. فصحيح أن الحكومات القليلة السابقة شهدت تصاعداً في توزير نساء، بل وفي توليهنّ حقائب حساسة وذات طابع أمني وسيادي، لكنهن لم يُدِرنَها بما يختلف كثيراً عن الرجال أو أي جنس آخر من أجناس السلطة نفسها الحاكمة منذ انتهاء الحرب الأهلية، طالما أن العامل الحاسم ما زال، كما دائماً، الانتماء السياسي للوزيرات والوزراء على السواء: الانتماء لأجندات الأقطاب.

رابعاً، سياسة التوجه إلى الناس مباشرة، والكلام بلغتهم وهمومهم والمشاهد التي يعيشونها يومياً، مع ذرف الدموع. هذه ثقافة، والثقافة في الخطاب السياسي، سياسة. ثمة من قد يصنّف "لغة" ميقاتي، في خطابه الأول كرئيس للحكومة، في مصاف الشعبوية، وآخرون قد يرونه التماساً للقرب من يوميات الناس. مجدداً، الحكم لاحقاً، بعد مراقبة الأداء، لكن الملاحظة مثيرة للاهتمام.

خامساً، سياسة دق الأبواب. سياسة خارجية وداخلية واقتصادية، لقرع أبواب الهيئات الدولية والعالم العربي، أي سياسة التسول والاستعطاف والمقايضة داخلياً بين هذا الحليف الخارجي وذاك. هذه سياسة، ربما من الإنصاف اعتبارها واقعية، ولعل الناس يشكرون صاحبها على واقعيته هذه. إذ لن يصدق أحد أي كلام عن تنمية أو "إعادة العجلة الاقتصادية إلى دورانها". لكن، إلى أي مدى يمكن رفع سقف التوقعات، أو الأمل في شيء من الفاعلية واستدامة الإنعاش بالحد الأدنى، إزاء نهج سياسي-اقتصادي من النوع هذا؟ خصوصاً حين توازيه سياسة "التعامل مع أي كان، باستثناء إسرائيل طبعاً، من أجل المصلحة اللبنانية"، بما في ذلك سوريا بشار الأسد.

سادساً، سياسة ما لم يُحكَ عنه: العدالة، محاسبة المسؤولين عن التسبب في هذه الأزمات من الأصل، أو أقلّه المسؤولين عن استمرارها وتفاقمها منذ العام 2019. التحقيقات في جريمة مرفأ بيروت وفي جرائم الاغتيال والتقصير والإهمال وكواتم الصوت. ضبط ومعاقبة التهريب والتخزين للأدوية والمحروقات والسلع الأساسية المدعومة، وذلك رغم أن صحافيين سألوا ميقاتي عن قضية رفع الدعم، فاكتفى بالقول أن لا أموال متوافرة للدعم. والأهم من بين السياسات المسكوت عنها في كلمة ميقاتي اليوم، السلاح المتفلت والمنتشر، ومسؤوليات الأجهزة الأمنية في تأمين سلامة المواطنين بدلاً من تنظيم مرور "شبيحة" الطوابير قبل المنتظرين منذ ساعات طويلة عند محطات الوقود.

حسناً، فلتوضع "السياسة" جانباً الآن، ريثما يرى اللبنانيون نتائج "العمل" على وقف الإنهيار.. هذا، إن كان المساران منفصلين بالفعل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها