الجمعة 2021/09/10

آخر تحديث: 15:16 (بيروت)

قال برهان "خلص" ومشى

الجمعة 2021/09/10
قال برهان "خلص" ومشى
increase حجم الخط decrease
أتذكّر آخر مرّة شاهدتُ فيلماً للمخرج برهان علوية، وكان فيلم "خلص". رأيت برهان خارجاً من الصالة، وكأنني كنت أنتظر صورته في الواقع كما رأيتها في الجريدة... برهان بشاربيه الكثيين ونظارته وشعره، كان صورة انتظرها. يومها لم أكن متحمساً لفيلمه ولا لكل الأفلام التي تحمل رسالة... كأني في خضم الأزمات والانقسام، كنت كارهاً لكل ما يمت بصِلة إلى الحرب، حتى الأفلام التي تدينها أو تصور مآسيها وما أوصلتنا إليه. ربما لأننا كنا لا نزال في قلب الحرب وتداعياتها، نتأمل في كل نشرة أخبار، كلام الدجل عن السلاح ومن يقود السلاح، ومن يواجه العدو.

فيلم "خلص" قصّة صديقَين حميمَين من أيام الحرب الأهلية (الشاعر فادي أبو خليل وريمون حصني الى جانب ناتاشا أشقر ورفعت طربيه) يتحوّلان إلى السرقة بعدما فشلا في تحقيق الآمال المعلّقة والأحلام الموعودة. أحدهما يعتقد أنه يستطيع أن يفعل كل شيء، بما في ذلك الانتقام من حبيبته، لكنه في الحقيقة لا يستطيع سوى الهرب، إليها حيناً، وبعيداً منها حيناً آخر.

كان هذا يشبه قصة علاقة الشاعر فادي ابو خليل، والكثير من المثقفين، بشارع الحمراء. المفارقة أنه، من بعد فيلم "خلص"، لم أعد أرى فادي، وقيل الكثير بشأن ابتعاده عن الأضواء والمسرح والشعر، وقيل الكثير أيضاً بشأن غيابه، وهو الذي لم يكن يفارق شارع الحمرا ولا مقاهي المودكا والويمبي والكافية دو باري. أقفلت المقاهي وتحوّل الشارع، وحتى "المعلّم كسبار رحل"...

أيضاً لم أعدْ أتابع المخرج برهان علوية، وقيل الكثير عن أنه أمضى سنوات حتى حصل على تمويل لإنتاج "خلص" الذي كان بمثابة رسالة وداع، وقيل إنه رثاء لجيل بكامله. وفيه يتحدث عن "جيل سار وراء السراب، ووراء الظن بأن الحرب ستحقّق أحلامه. كان هذا الجيل مقتنعاً بالتغيير، لكنه أصيب بالخيبة ووصل الى الفراغ". هُزم مشروع هذا الجيل. وثمة أشخاص هُزموا ووجدوا أنفسهم وقوداً للحرب التي أعطوها في البداية مشروعية...

"خلص"، بحسب برهان، هو تعبيرٌ عن واقع الحرب التي تجاوزت حدودها لتصبح على هذا القدر من البشاعة. قال برهان "خلص" أو "كفى"، لكن المعاناة بقيت، والحالة أًصبحت أسوأ من الحرب. من بعد الفيلم، قيل إن برهان عاد إلى بلجيكا، إلى المكان الذي انطلق منه. كانت أفلامه حاضرة وشخصه غائباً، وبدا ذلك واضحاً في الرثاء الذي كتبه مقربون منه. برهان الذي كان خلال سنوات الحرب، يعرض فيلمه، ويكون بين جمهور الفيلم ومع نقاده، في مرحلة اختفى، كأنه اختار المنفى الذي تحدث عنه كثيراً، ملاذاً له، في البلد حيث لطالما واجه أهل السينما مطبات وهواجس..

قال برهان علوية "خلص" ومشى، وهذه الكلمة هي أقل الممكن.
وبرهان درس في مدرسة عين الرمانة، وعمل كمساعد مصور ثم كونترول فيديو في "تلفزيون لبنان"، ودرس بعد ذلك العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، ثم بدأ رحلة خارج البلد أتاحت له زيارة دول إفريقية مختلفة منها مصر والسودان والكونغو، وعندما عاد إلى بيروت العام 1967، وقعت حرب الأيام الستة التي دفعته إلى مغادرة لبنان إلى باريس.

في كل مرحلة كان عليه أن يصطدم بحرب. بمعنى آخر، فتح عينه فوجد الحرب أمامه، الحرب كانت بدأت في العام 1948، ولم تتوقف العام 1956، وبلغت ذروتها العام 1967... هي الحروب المتعاقبة المتناسلة التي لم تقف عند حدود الدول، بل دخلت في الزواريب وفي الكلام وفي المنابر. وعلوية، مثل كثيرين، هاجر الى فرنسا باحثاً عن العلم. التحق بالمعهد الوطني العالي لفنون العرض وتقنيات البث "إنساس" في بروكسل ببلجيكا، وتخرج فيه العام 1973 بفيلم تخرج قصير بعنوان "ملصق ضد ملصق"، وبعدها قدم فيلماً آخر بعنوان "فوريار". وهو، مثل كثيرين أيضاً، عاد الى بيروت قبل أعوام قليلة من اندلاع حربها الطويلة والقاسية، ساعياً الى بلورة أفق متجددة لسينما لبنانية عربية تتمرّد على المألوف.

في بيروت، التقى برهان علوية عدداً من السينمائيين اللبنانيين، ذوي الهواجس المشتركة والميول اليسارية، ومع مارون بغدادي الذي عاد من باريس ومات في مصعد مبنى بشكل غامض، وجوسلين صعب وجان شمعون، ورندة الشهال التي خطفها السرطان وغيرهم. والمشترك بين هؤلاء جميعاً كان الوعي بقضية فلسطين وصدمة الحرب الأهلية، صارت الحرب قرينة كل فيلم جديد يقدمونه، وشكلت الهاجس اللغوي والصوري والوجودي للمخرجين... في البداية قدم برهان أفلاماً روائية ووثائقية عديدة، منها "كفر قاسم" العام 1975، وهو الفيلم الذي تسبب في شهرته عربياً، عن قصة عاصم الجندي، والذي يسرد في قصة ساعة ونصف الساعة عشية الهجوم الإسرائيلي على مصر في العام 1956، حينا أعلنت السلطات الإسرائيلية حظر تجول في المناطق العربية في فلسطين المحتلة من دون سابق إنذار للسكان. فيُفاجأ سكان كفر قاسم، لدى عودتهم من أعمالهم، بحصار من قبل الجيش الإسرائيلي الذي سيرتكب لاحقاً ما يُعرف تاريخيا بمجزرة كفر قاسم.

ثم أخرج علوية "لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء"، وتلاه الروائي الطويل الثاني "بيروت اللقاء"(كتابة أحمد بيضون) قبل عام واحد فقط من الاجتياح الاسرائيلي للبنان في حزيران 1982، ما دفع علوية، الذي بقي في بيروت حتى لحظة الاجتياح هذه، الى خيار الهجرة الى باريس، حيث أنجز "رسالة من زمن الحرب"(1984) و"رسالة من زمن المنفى" (1989). ولم تتوقف الحرب عند الأهلية أو الحرب الاسرائيلية العربية، فعام 1990 كانت حرب الخليج الكونية بعد غزو صدام الكويت لتزيد الطين بلة، وأثرها سيرتد على المنطقة كلها من لبنان الى فلسطين وسوريا. ولم تكن هذه الحرب بمنأى عن هواجس برهان، ففي العام 1992 أخرج فيلم "وفي ليلة ظلماء" عن حرب الخليج مع مجموعة من المخرجين العالميين. في العام 2000، أخرج رسالته الثالثة والأخيرة "اليك أينما تكون" وقد وجهها من لبنان بعدما عاد من المنفى، العام 2006. أنجز علوية فيلمه الروائي الثالث "خلص"، الذي قال كثر إنه كان بمثابة "رسالة وداع"، مع أنه تابع عمله من بعده لكن بشكل خجول.

بمعنى آخر، ونحن نكتب عن سيرة برهان علوية، نجد أننا في منطقة حيث لا بد أن لم نكون في خضم حرب أهلية، أو حرب عربية اسرائيلية، أو حرب كونية، كأن قدر الشرق الاوسط أن يبقى في حرب دائمة، وما على الأفراد إلا التشاؤم، أو التوهم. وعدا ذلك كانت حياة برهان علوية هجرات ومنافي وهواجس لم تنته فصولها، وكان مخرجاً متمردا يواجه المآزق بالصورة والحوار.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها