السبت 2021/08/07

آخر تحديث: 11:36 (بيروت)

عيد التجلّي... جيد أن نكون هنا

السبت 2021/08/07
increase حجم الخط decrease
في كتابه "الآثار الباقية عن القرون الخالية"، ناقش أبو الريحان البيروني في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، في ماهيّة التواريخ واختلاف الأمم والشعوب في تحديدها، ونقل سلسلة من التقاويم المعتمدة، أحدها تقويم خاص بـ"النصارى الملكائية"، أي الروم، وفيه استعرض مجمل الأعياد التي تحتفل بها هذه الطائفة، ومنها "عيد طور تابور" الذي يُقام في السادس من آب، وهو العيد الذي يُعرف بعيد التجلّي.


كتب البيروني في عرضه لهذا العيد: "له خبر مذكور في الانجيل، وهو أن موسى بن عمران وإيليا الذي هو إلياس، النبيّين، ظهرا للمسيح بطور تابور، وكان مع المسيح ثلاثة من أصحابه، وهم شمعون ويعقوب ويوحنّا، وكانوا نائمين، فلمّا انتبهوا من نومهم وعايشوا ذلك، فزعوا وقالوا: ربّنا، يعنون المسيح، يأذن في عمل ثلاث مظلّات، لك واحدة والأخريان لموسى والياس. فلم يتمّ ذلك من قولهم حتى أظلّتهم ثلاث سحابات مشرفة عليهم، ودخل موسى والياس الغمام ومضيا. وموسى كان ميتاً قبل ذلك بدهر، والياس حيٌ إلى الساعة، كذلك ذكروا، ولكنه مُختف عن الناس، مُستتر عن أبصارهم".

يخبرنا الإنجيليون الثلاثة متى ومرقس ولوقا عن حادثة التجلّي، وتتقاطع هذه الروايات بشكل كبير. بحسب متّى: "أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه، وصعد بهم إلى جبل عال منفردين. وتغيرت هيئته قدامهم، وأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور. وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يتكلمان معه. فجعل بطرس يقول ليسوع: يا رب، جيّد أن نكون ههنا، فإن شئت نصنع هنا ثلاث مظال: لك واحدة، ولموسى واحدة، ولإيليا واحدة. وفيما هو يتكلم إذا سحابة نيّرة ظللتهم، وصوت من السحابة قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت، له اسمعوا. ولما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جدا. فجاء يسوع ولمسهم وقال: قوموا، ولا تخافوا. فرفعوا أعينهم ولم يروا أحدا إلا يسوع وحده. وفيما هم نازلون من الجبل أوصاهم يسوع قائلا: لا تُعلموا أحدا بما رأيتم حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات" (متى 17: 1-9).

ينقل مرقس رواية مشابهة، وفيها يقول إن المسيح تجلّى بمرأى من تلامذته، و"صارت ثيابه تلمع بيضاء جدّا كالثلج، لا يقدر قصّار على الأرض أن يبيّض مثل ذلك" (9: 3). أما لوقا، فيقول بأن موسى وإيليا "ظهرا بمجد، وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله في أورشليم. وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم. فلما استيقظوا رأوا مجده، والرجلين الواقفين معه" (9: 31-32)، وهذه الرواية هي الأقرب إلى تلك التي نقلها البيروني في حديثه عن "عيد طور تابور"، أي جبل تابور. لا يذكر أي من الانجيليين اسم الجبل الذي شهد هذه الحادثة، غير ان التقليد المسيحي أشار في مرحلة مبكرة إلى ان جبل تابور الواقع في جنوب الجليل الأسفل، شمال مرج ابن عامر، هو جبل التجلي، وقد جرى تكريس كنيسة كبيرة في هذا الموقع بين القرن الرابع والقرن الخامس.

على الصعيد الفني، يظهر مشهد التجلي بشكله المتكامل في فسيفساء بديعة في كنيسة دير القديسة كاترينة في سيناء تعود إلى في عام 565. واللافت أن هذه اللوحة تتبنّى تأليفاً تحوّل سريعاً إلى تأليف ثابت اعتمد في سائر أنحاء العالم المسيحي على مدى قرون. وسط هالة بيضوية زرقاء تلف قامته كلها، يقف المسيح منتصبا بسموّ ملكي، مباركاً بيده اليمنى العالم والخليقة. ومن هذه الهالة السماوية، تخرج خيوط ضوئية باتجاه الشهود المحيطين به. تحت قدمي السيد، يمتدّ بطرس أرضا، رافعاً يده نحو وجهه ليحتمي من نار التجلّي. عن اليمين، يركع يوحنا على ركبتيه مبتهلاً، وعن اليسار، يحضر يعقوب في وضعية مشابهة. على مقربة من يوحنا، يقف النبي إيليا مشيرا بيده اليسرى إلى السيد. وفي الطرف المقابل، يقف موسى راسما بيده اليمنى إشارة الفلاسفة التي تحوّلت في المسيحية إلى إشارة المباركة.

السماء من الذهب الخالص، وسطح الجبل سهل أخضر مجرّد يتداخل مع هذه السماء. تُخلد الصورة لحظة التجلّي ببهائها القدسي. "جيد أن نكون هنا" (متّي 17 : 4)، يقول بطرس للمسيح. على جبل تابور المقدّس ينزاح الحجاب برهة، ويعود العالم إلى حالته الأولى، يوم "قال ألله: ليكن نور، فكان نور، ورأى ألله النور إنه حسن" (تكوين 1 : 3-4). يحد هذا المشهد في الأعلى شريط يحوي سلسلة من اثني عشرة دائرة تشكل عقدا يحتوي وجوه الرسل الاثني عشر، ويحده في الأسفل شريط ثان يحوي سلسلة أخرى من الدوائر تحوي مجموعة من وجوه الأنبياء.

تجد هذه الفسيفساء موقعها في حنية كنيسة شُيّدت في صحراء سيناء، حيث خاطب الله كليمه موسى فوق جبل حوريب. ونقع على لوحين من الفسيفساء يصوّران هذه الحادثة على الجدار الذي يعلو هذه الحنية. في اللوح الأول، يظهر موسى وهو يخلع نعليه أمام نبتة خضراء تخرج منها لهب النار، وهي العليقة الملتهبة، بحسب ما جاء في الكتاب: "وجاء إلى جبل الله حوريب. وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة. فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق. فقال موسى: أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم. لماذا لا تحترق العليقة؟ فلما رأى الرب أنه مال لينظر، ناداه الله من وسط العليقة وقال: موسى، موسى. فقال: هأنذا. فقال: لا تقترب إلى ههنا. اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدّسة" (خروج 3: 1-5).

وفي اللوح الثاني، ينتصب موسى ويتلقّى بخفر لوحَي الوصايا العشر اللذين وهبهما الله له في ختام هذا اللقاء، كما جاء في الكتاب: "ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لوحي الشهادة: لوحي حجر مكتوبين بإصبع الله" (خروج 31: 18).

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها