الجمعة 2021/08/06

آخر تحديث: 10:52 (بيروت)

عباس كيارستمي مُستعاداً في "موبي".. ستحملنا الريح والطرق

الجمعة 2021/08/06
increase حجم الخط decrease
خمسة أعوام مرّت على رحيل عباس كيارستمي(1940 – 2016)، سينمائي إيران الأمهر والأشهر، الذي كتب الشعر أيضاً والتقط صوراً لكل ما لفت انتباهه. للاحتفاء بذكراه واستعادة جمال وثراء أعماله، تعرض منصة "موبي" للسينما الفنية، سبعة من أفلامه خلال الشهر الحالي. الاستعادة تبدو فعلاً كيارستمية بامتياز، بتوخّيها الإحاطة بمنجزه عبر اختيارات تغطّي فترة تقارب الثلاثين عاماً وتتماس أيضاً مع ثيمات متكررة في أعماله، لتغدو نوعاً من "معاودة السير بنَفَس طازج" على قول الشاعر الإيراني العظيم سهراب سبهري، الذي يقتبس منه كيارستمي عنوان أحد أفلامه المعروضة في البرنامج.

يتضمن البرنامج فيلمين من "ثلاثية كوكر"، القرية التي اختفت من الخريطة فعلياً وخلّدها كيارستمي سينمائياً. الأول "أين بيت صديقي؟"، المشغول بالشعر والعمارة، يتابع مغامرات تلميذ في العاشرة يضطر للذهاب إلى قرية أخرى لإعادة كرّاسة الواجب المدرسي إلى زميله في الفصل. والثاني "عبر أشجار الزيتون"، وكما هو الحال مع كيارستمي في كثير من الأحيان، فالأمر هنا يتعلق بمسألة "ميز إن أبييم mise en abyme" (في نظرية الفيلم والنظرية الأدبية، تشير إلى تقنية إدخال القصة في القصة)، والمساءلة المستمرة لحدود القوى الجمالية والسياسية للسينما. يتتبع هذا الفيلم (داخل الفيلم) مغامرات طاقم تصوير، مقيم بين أشجار الزيتون في قرية في شمال إيران دمّرها الزلزال مؤخراً. كيشاورز، المخرج والأنا، التجربة السينمائية لكيارستمي نفسه، في خضم بحث عن ممثليه... بلا استهتار أو أنانية متضخمة، يتساءل كيارستمي من هذا المنطلق عن مهنته وسلطته كمخرج، وأخلاقيات نظرته لعالمه وشخصياته ومجتمعه، وفي باله هاجس مُلحّ: كيف يصوّر الناس من دون أن يصبح مصَّاص دماء؟


الفيلم التالي في ترتيب المجموعة، هو "طعم الكرز" (1997)، تحفة مفاهيمية افتتحت الفترة التجريبية للسينمائي الإيراني الأمهر. فيلم طريق، إنما بلا مغامرات هائجة أو انعطافات حادة، فيه يبحث رجل عن متطوع للقيام بمهمة مدفوعة الأجر تتمثل في مساعدته على الانتحار. في الطريق، يلتقي بمعرض من الشخصيات الهامشية الذين يجسدون تعقيد مجتمع إيراني حافل بالتناقضات: طالب دين، حارس متحف... موضوع متكرر في عمل كيارستمي، السيارة تعمل ككبسولة، شاشة للعالم، عين متجولة قادرة على تسجيل العالم وتنظيم تقدُّم السرد.

يتضمّن البرنامج أيضاً "مثل شخص واقع في الحب"، سرد لمدة 24 ساعة للقاء بين رجل عجوز وامرأة شابة في شوارع طوكيو. حوارات طبيعية ومتواضعة، نهجٌ شفّاف، انعكاسات حزينة للمدينة في النوافذ. يبلور هذا الفيلم أسلوب المخرج المقتضب، ويثير ذلك الحزن المريح لقصائد الهايكو الموجزة. لإكمال هذا الماراثون، ستعرض موبي أيضًا "عشرة"، وهو فيلم بسيط يقع في منتصف الطريق بين الفيلم الوثائقي والروائي، والذي يستكشف الحياة اليومية للمرأة في إيران. بالإضافة إلى "نسخة معتمدة"، من بطولة جولييت بينوش.

في فيلمه الأخير "24 إطاراً"، وهو فيلم قصير تتجلى فيه العلاقة بين السينما والتصوير الفوتوغرافي أكثر من أي وقت مضى، يسافر كيارستمي، كما هو الحال غالباً مع شخصياته، بسيارته خائضاً في أماكن متناثرة على طول الجغرافيا الإيرانية. في إحدى المرات لاحظ شيئاً ما في الثلج، فأوقف السيارة واتجه فوراً نحو ما رآه. بعد ذلك بقليل رأى حصاناً، ثم طيوراً، وفي اللقطات التالية تحتل الشاشة عدة صور مبهرة لأشجار منعزلة في بياض الثلج. الجمال لا يمكن إنكاره، لكن المثير للاهتمام هو شيء آخر: يقظة المخرج، واستعداد كيانه كله لمحفزات العالم.

التحيزات ضد السينما الإيرانية معروفة وواسعة الانتشار. كما لو كان نظماً شعرياً قديماً، يُقال أن السينما الإيرانية بطيئة ورتيبة وخالية من التشويق، وكأنها حياة ثابتة في 24 إطاراً في الثانية. يحتاج المرء فقط إلى تجربة حظه إذا لم يحظ بعد بفرصة مشاهدة فيلم كيارستمي "وتستمر الحياة" (الجزء الثاني من ثلاثية كوكر، وليس ضمن السلسلة الاستعادية للأسف)، ليدرك أن التحيّز مفسد للأرواح. هذا الفيلم الاستثنائي، الذي عاود فيه كيارستمي التصوير في منطقة دمّرها زلزال من أجل التحقق مما إذا كان الأطفال من أبطال فيلمه السابق "أين بيت صديقي؟" على ما يرام بعد الكارثة التي حدثت قبل أشهر، ليس سوى فيلم مغامرات فريد، لا ينقصه التشويق والترقب ولا تعوزه السرعة.

هناك مشهد أجمل من أن نحدده، لكن من المستحيل تجنّبه في الفيلم. البطل، وهو مخرج يمثّل الأنا الأخرى لكيارستمي، وابنه يصلان إلى مخيم للاجئين، ليس بعيداً عن قرية الأطفال الذين يبحث عنهم المخرج. حتى تلك اللحظة، حدث كل شيء بالفعل، وما نراه نقريباً لا يتجاوز التسجيلي والوثائقي. تفاعُل البطلَين مع الناجين يوفر دائماً بعض المواقف التي لا تصدَّق (لكنها حقيقية)، ويضيف وجهة نظر حول ما يجب القيام به في مواجهة المحنة والكارثة.

لكن مجد قصة التعايش مع الكارثة هذه يتحقق قرب نهايتها، وبابتسامة محيّرة، عندما نتابع الأولاد في القرية يبحثون عن إشارة إرسال لمشاهدة مباراة كأس العالم 1990. يسأل المخرجُ الصبي الذي يعطي توجيهات لأصدقائه لضمان الحصول على صورة جيدة على التلفزيون: "هل تعتقد أنه من الجيد مشاهدة التلفزيون هذه الأيام؟"، فيجيب الصبي:" في الواقع، أنا في حالة حداد. لقد فقدت أختي وثلاثة أبناء. ولكن ماذا يمكننا أن نفعل؟ المونديال كل أربع سنوات. لا يمكنك تفويته. الحياة تستمر." بالطبع. "وتستمر الحياة" معرض أدلة للتأكيد على إرادة الوجود، وحتى الكوميديا​​، في مواجهة قسوة العالم. لا الركام ولا الموتى يوقفون إرادة الحياة.


تتميز جميع أفلام كيارستمي بطريقة خاصة في التعامل مع الحوار. على عكس الشائع تمثيله وتقديمه في السينما المعاصرة، حيث تشرح الكلمات أفعال الشخصيات ودواخلها، نجد في محادثات أفلام مثل "طعم الكرز" أو "عشرة"، من بين أفلام أخرى، موقع أحداثها ليس سوى صالون داخلي لسيارة البطل/ة، أن ما تقوله الشخصيات يحمل بداخله جينات نقاشات فلسفية ومحاججات كلامية تبدأ من أبسط الأمور وتلقي بظلالها إلى ما يتعذّر التصريح به تحت سيف الرقابة. وهذا الغني الحواري عائد بدوره إلى منهج معقّد وبسيط في آن لاستنطاق الشخصيات بإيقاعات لا تبدو أبداً قسرية واستطرادات كلامية تحمل الحوار إلى مناطق يصعب تصوّر الوصول إليها من نقطة انطلاق الكلام. أيضاً يلعب الاستعانة بممثلين غير محترفين دوراً في إضفاء الصدق والموثوقية على طزاجة وفرادة ما تسجّله الكاميرا.

بهذا المعنى، فإن تدفق الكلام في أفلام كيارستمي يذكّر بمتعة أفضل الحوارات الأفلاطونية، دون التخلي عن الخصوصية الإيرانية، فالأرض والثقافة تتخللان جماليات الحوار. فالخطاب مليء بالصور المرئية المميزة للتقليد الشعري الفارسي، وتميل بنية النقاشات الجدلية بين الشخصيات إلى التحرك في شكل زجزاجي لا يستقر على رأي بعينه، كما لو كان هناك ممر غامض يربض بين تلك الطرق والمدقّات الجبلية التي غالباً ما تُرى في مشاهد طويلة أو تصاحبها أصوات تتحدث بحكايات وخواطر وتأملات.

الكلمة ومَن ينطقها وما يرافقها من مناظر طبيعية، يشكلون مجتمعين كُلّاً مترابطاً، طريقة لإثبات الوجود في العالم. وفي أفلام كيارستمي ما يكفي لتغيير الطريقة التي نتعامل بها مع السينما والعالم. فالأشجار، والريح، والشمس، والأطفال، والرجال، والنساء.. يتجاوزون في هذه الأفلام بُعداً جمالياً لا ينفصل عن الحياة. لا شيء فائض عن الحاجة، لا تمثيل مبالغ فيه: العَيْش والتصوير يندمجان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها