الأربعاء 2021/08/04

آخر تحديث: 17:13 (بيروت)

عدي لزية... عندما طرتُ أمتاراً

الأربعاء 2021/08/04
عدي لزية... عندما طرتُ أمتاراً
increase حجم الخط decrease
كنت هناك وسمعت أصوات استغاثاتهم وهم يحاولون جاهدين النجاة من الحياة، لم أكن أدرك صبيحة 4 آب أنني على موعد مع الموت المعجل المكرر، الذي نكسبه كل يوم كرغيف الخبز.
كانت الساعة تشير الى الخامسة مساءً، أنهيت عملي وانطلقت وزميلي من جونيه (شمالي بيروت) باتجاه بيروت... ترجلت من سيارة صديقي أمام "بيت الكتائب"... الساعة كانت تشير الى ما بين 5:30 و5:40 ترجلت هناك وقصدت منزلي مشياً، لرغبة دفينة بداخلي لأتصالح مع بيروت، فقد افتقدتها بعد ذاك الحجر الصحي الذي سبق يوم الكارثة.

كنت قد وصلت الى الباشورة، التقيت بصديق لي ترافقنا في طريق الإياب، ثواني خاطفة مرت حينها شعرتُ بهزة أشبه برعشة خفيفة، لفظتْ الأرض حينها أنفاسها، صرختُ مناديا رفيقي قائلاً إنه صاروخ انخفضْ، وجلست بارتخاء القرفصاء مخفياً وجهي وطامراً عيني في أكوام من الخوف والقلق المباغت.. للوهلة الأولى ظنّ أني أمزح، تأخر حتى استجاب لي. كنتُ أنتظر دوي الانفجار، نحن الذين عايشنا الغارات الاسرائيلية مراراً، صرنا نشتّم رائحة القصف قبل قدومه. ارتجفت الأرض بشكل مريب كأم ثكلى، صرخت مرة ثانية "انفجار انخفض"... لم أكمل جملتي حتى شعرت أنني أطير كورقة مع سحابة من الزجاج، لم أرفع يدي عن وجهي خاصة عن عيني، لشبه يقين مني بما كان سيحدث، قذفتني قوة الانفجار امتاراً، أضعت رفيقي وصوتي الذي دفنته تحت رماد الخوف... أصبتُ بنوبة هلع لثوان... الشوارع كانت صرعى والنساء بدأت العويل واحترف الأطفال البكاء فجأة، في مدينة لطالما كانت المرادف للحب وللحياة والسعادة.

لم أتحمل أن أبقى لثانية مكتوف اليدين... عبرتُ خوفي نحو رفيقي مطمئنا، كان رأسه تحت سيارة مركونة على جانب الطريق، وقد أصيب برضوضٍ طفيفة وأصبتُ بتصدعات روحية عميقة كخدش على زجاج الذاكرة... ركضتُ مسرعاً نحو المكان الانفجار، كانت الجثث على ضفاف الطريق كشجر الصفصاف فوق نهر من الدماء، مررت أمام مركز للدفاع المدني في الباشورة، تحول براداً للموتى ومقبرة مؤقتة، ركضت نحو المرفأ حيث اكتشفت ألسنة اللهب وأنفاق الدخان العمودية، اقتربت من الباب الأساسي، منعنا الجيش من الدخول... دخلت خلسة من كوة في الجدار وليدة الانفجار، ورأيت ما لا يُرى.

أذكر تماماً ملامح الرجل الذي أصابته نوبة هلع شديد وهو سليم البدن من دون أي جروح تذكر، سألته عن حاله، فأشار لي صوب بناء خلف بيت الكتائب، علق صديقه في المبنى والمياه قد غمرته وهو يراه ينازع أنياب التيار الكهربائي... حاولت الدخول لفصل التيار لم أستطع بلوغ غرفة المحول. فقد هشمه الدمار وغيره الكثير من الذين علقوا عند بوابة الوجود.

على مدى أيام صرت أعاني الأرق، افترش الليل ضفاف عيني، أحاول نسيان تلك المشاهد.. فمن نجا بجسده من الانفجار لم ينجُ بذاكرته، وكل الضحايا الذي وَجدوا جثثهم هربوا من الحياة لانها مقبرة الأحياء ونحن جميعا لازلنا تحت الركام ننازع عتمة الردم عدا الذين غادرونا فجأة!

(*) مدونة نشرها الكاتب عدي لزية في صفجته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها