الأربعاء 2021/08/04

آخر تحديث: 17:09 (بيروت)

ثقب أسود

الأربعاء 2021/08/04
ثقب أسود
انفجار مرفأ بيروت (Getty)
increase حجم الخط decrease
حين وصلني خبر مجزرة المرفأ التي ارتكبها النظام اللبناني بحق سكان بيروت، لا أدري لماذا خطر في بالي استفهام عن الحفرة: هل احدثت هذه المجزرة بانفجارها حفرة في مكانها؟ فالحفرة تشير إلى أن ثمة عمقاً قد أحدث في الأرض، التي يبتلع جوفها ما كان عليها من بشر وحجر بالتوازي مع نزوله فيه. لكن، رغم هذا المعنى الابتلاعي للحفرة، فهي قد تكون على معنى مختلف، بحيث أن وجودها ضروري من أجل تحديد أمر معين بعد بروزها، وهو بسيطة تلك الأرض أو مداها.

فبالانطلاق من الحفرة، يمكن القول إن هذه المساحة من الأرض أو ذلك الحيز ما زال صالحاً للوقوف عليه، وهذا، تماماً، كما كان غاستون باشلار، على ما اعتقد، يتحدث عن الأرض بما هي قد وجدت لإيقاف السقوط. على هذا النحو، تكون الحفرة في هذا السياق دليلاً على أن الأرض قد فتحت جوفها، لكنها، تدل على أن هذه الأرض، ومن حولها، ما زالت ممكنة.
لم أشاهد الحفرة للأسف، لقد شاهدت مدينة مدمرة، لا تحيل سوى إلى الاستنتاج بأنها صارت كلها كناية عن حفرة واحدة إلى درجة أن أي بسيطة عليها ما عادت مرئية، يعني اي بسيطة عليها ما عادت تؤكد ان ثمة ما يوقف السقوط منها. فالحفرة اخذت بمعناها الابتلاعي إلى اقصى حد له، محت به معناها الذي يفيد بأن وجودها قد يثبت تأرّضاً ما (التشييد والسكن والعيش) في محيطها أو حولها. محا المعنى الأول للحفرة، المعنى الثاني، وبهذا، انتهت الحفرة.... الآن، وانا اسجل هذا التعليق، تذكرت انه، خلال حرب تموز 2006، نزل صاروخ بالقرب من المنزل، فحضني اخي بعد ساعات من الخوف على الذهاب الى المكان المقصوف، قال لي "تعال نتفرج على الجورة". لم أفهم بغيته يومها. لكنه ربما كان يريد أن يتأكد عبر رؤية الجورة من كون الأرض لا تزال ممكنة، أي لا يزال التأرض في نواحيها ممكناً. هذا ما لم اقتنع به يومها بالقرب من المنزل، أما، عندما شاهدت بيروت بعد تفجيرها قاومت عدم اقتناعي ذاك لكي لا ينقلب الى يقين.

ولكن، ماذا يحصل للحفرة حين تصير على معناها الابتلاعي فقط؟ على الأغلب تتحول إلى ثقب اسود، حيث يعود الحديث عن تأرض لا جدوى منه، وحيث يغدو السؤال الوحيد، هو: كيف يمكن الخروج من هذا الثقب الأسود؟ لا جواب، وقبل ذلك، لا أفق لطرح السؤال اصلاً، وهذا ما يتعلق بالثقب الأسود، بِسِماته، التي، ومن فترة إلى ثانية، يبتلع كل شيء يمر بالقرب منه، يجعله على منواله، من دون أن يعكس منه سوى سقوطه فيه بدايةً ثم تلاشيه. لا شيء في الثقب الأسود رغم الظن ان كل الأشياء فيه، لا حدث في الثقب الأسود رغم الظن ان كل الأحداث فيه. ففي هذا الثقب الأسود نظام يعدم الأشياء والأحداث.

فقد سرق سكانه عبر مصارفه، حطم عيشهم، فجر بيروت، قتل سكانها، جعل من اغتيالهم "فرصاً": فرصة نجاته، فرصة إعادة تدويره، فرصة "نشاطه"، فرصة طبقته وحواشيها، فرصة احتفالياته، فرصة نفخ الدم في عروق دولته، فرصة تجديده لنفسه على كل الصعد وعبر كل الوجوه. انه نظام جعل من التأرض فيه سقوطاً، وجعل من السقوط فيه ظرفاً لكي يمدد ثقبه الأسود، ويلتهم ما تبقى من البلد. فكيف يحصل الخروج من هذا الثقب من دون إطاحته؟ كيف يمكن النظر الى من كانوا عرضة له في لحظة تكشفه عن نفسه، يعني إلى من قتل وجرح، ثم القول لهم ان العدالة لكم منه؟ الحفرة صارت ثقباً اسود، لا سماءه تنشق فوقه، ولا أرضه "تلقي ما فيها"!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها