الثلاثاء 2021/08/31

آخر تحديث: 12:07 (بيروت)

السينما المصرية مُطوّعة المثليين.."بفضل" كتّاب من محفوظ إلى الأسواني

الثلاثاء 2021/08/31
السينما المصرية مُطوّعة المثليين.."بفضل" كتّاب من محفوظ إلى الأسواني
"رسائل البحر" لداوود عبد السيد
increase حجم الخط decrease
دائماً ما تُوجّه أصابع اتهام الرجعية، والتسلط الديني على الحريات الشخصية، من قِبل التيارات التقدّمية، الليبرالية واليسارية، ومنظمات المجتمع المدني، لاسيما المهتمة بحقوق الجندر (النوع الاجتماعي)، إلى ما تُعرف بالأوساط التديّنية، باختلاف أسمائها وأفكارها. إذ يرفض الطرف الثاني المثلية الجنسية، حسب مرجعيته الدينية التي اتخذ منها هذا الرفض، بينما عند النظر إلى فئات مجتمعية أُخرى بعيدة من البيئات التدينية، بل وعلى اختلاف معها، كَالاجتماعات الفنية، تجد فيها -أخصّ هنا السينما المصرية- تاريخاً من النبذ والرفض للإنسان مثليّ الجنس في أفلامها، مع الأخذ في الاعتبار أن كتّاب ومخرجي تلك الأفلام هم نخب مصريّة ذائعة الصيت، نجيب مَحفوط، إحسان عبد القدوس، علاء الأسواني، وحيد حامد، صلاح أبو سيف، سمير سيف وخالد يوسف وغيرهم. فكيف ولماذا نبذت الثقافة المصرية السينمائيّة المثلية الجنسية؟ ولماذا لم ينل صانعو هذا النبذ الانتقاد من الأوساط التقدميّة، قديما وفي وقتنا الحالي؟

ناقصو رجولة، وخدم ومُتحرشون
صدر العام 1958، فيلم "الطريق المسدود"، من تأليف إحسان عبد القدوس، شاركه السيناريو والحوار نجيب محفوظ، ومن إخراج صلاح أبو سيف. وهو أول فيلم مصري يجسّد المثلية الجنسية، من خلال فتاة تُدعى حسنيّة تعمل مدرسة في مدرسة البنات، وجسّدت الدور الفنانة ملك الجمل، إذ ظهرت مثليّتها في تحرّشها الدائم لفظيّاً وجسديّاً بزميلتها فايزة (فاتن حمامة) عن طريق لمس جسدها تارة، وأُخرى بالإعجاب الزائد بملابس نومها وجسدها.

إحسان عبد القدوس أيضا، كتب العمل السينمائيّ الشهير والصادر العام 1990، "الراقصة والسياسي"، شاركه السيناريو وحيد حامد، والمخرج كان سمير سيف، وبرزت شخصية الرجل ناقص الرجولة، ملتوي الجسد كالنساء، وجسّد الدور الممثل فاروق فلوكس، وكان مساعدا شخصيّاً للراقصة وهي بطلة الفيلم "سونيا سليم" (نبيلة عبيد). لم يخل الفيلم، من حديث مباشر وساخر من الراقصة لمساعدها بأنّه فاقد الرجولة، ويميل بنمطه الجنسي إلى أشياء مريبة، لا يعتادها الرجال الطبيعيون، أي الذين يمتلكون قضيباً فعّالاً -بغض النظر هنا عن رمزيّة القضيب التي عكستها السينما كمرآةٍ للمجتمع المصري- لكن، لم تسلم الشخصية من النبذ، وحتى اسمه في الفيلم كان "شفيق ترتر".

وحيد حامد وعاطف الطيب، أصدرا العام 1994، فيلم "كشف المستور"، الذي يتناول قضية انحراف المخابرات المصرية في عهد الراحل جمال عبد الناصر، عن طريق تجنيدهم للنساء، لممارسة الجنس مع شخصيات بعينها بحجّة مساندة الوطن. وتظهر في منتصف الفيلم امرأة اسمها ناهد عصفور (نجوى فؤاد)، وهي إحدى المجنّدات السابقات، وتتحرّش بزميلتها السابقة سلوى شاهين (نبيلة عبيد)، معبّرةً عن ذكريات حبّها لها، فتردّ عليها الأُخرى "عالله ما يكونش ده حالك لغاية دلوقتي" أي أنّها تستنكر وجود امرأة تفكر في الجنس المثليّ.

أيضاً أفلام ما بعد الألفية الثانية، رصد البعض منها المثليّة الجنسية، لم يختلف هذا الرصد عن سابقه من حيث النبذ والرفض، لم يسمّوه قديماً أو حديثاً إلّا الشذوذ الجنسي. بعض الأفلام، مثل "حين ميسرة" 2007، تأليف ناصر عبد الرحمن وإخراج خالد يوسف، "عمارة يعقوبيان" 2006، وهو مأخوذ عن رواية علاء الأسواني بالاسم ذاته، وسيناريو وإخراج الأب والابن وحيد ومروان حامد.



بعض الأفلام تناولت العلاقات المثليّة، ولكن بدرجة رفض أقل، أي أنّهم وضعوا ذلك النمط في غرفة المرض النفسي والعضوي، الذي يحتاج إلى علاج من الأطباء. مثل فيلم "حمام الملاطيلي" العام 1973، تأليف وإخراج محسن زايد وصلاح أبو سيف، حيث مثّل رؤوف (يوسف شعبان) دور الفنان مُرهف الحسّ، الذي يميل جنسياً إلى المثلية، ويعاني من وحدته داخل المجتمع، لكن في العام 2019، وقبل رحيل يوسف شعبان، أجاب أنّ الدور كان بالنسبة إليه تحدّياً، وهو يجسد أُناساً متواجدين بالفعل في المجتمع، لكنّه سمّاهم شواذ أو النوع الثالث، بل وأكمل أن المخرج صلاح أبو سيف أتى بهذا الدور، لكي ينصح العائلات المصرية بالاعتناء بأطفالهم الصبية وحمايتهم من الاعتداءات الجنسية وهم صغار حتى لا يصبحوا شواذاً جنسيّاً في الكِبر.

وحدهما يوسف شاهين، وداوود عبد السيد جسدت كاميراتهما العلاقات المثلية في أفلامهما من دون وصمٍ شخصي للأدوار، سواء كانت العلاقات عاطفيّة بحتة، مثل فيلميّ "إسكندرية ليه العام 1979، و"إسكندرية كمان وكمان" العام 1990، أو علاقة عاطفية إيروسية، كما في فيلم رسائل البحر العام 2010. لم يعترف شاهين وعبد السيد بحق الإنسان في علاقته المثلية، ولم يشجعا على ذلك، لكنهما أيضاً لم يلصقا بالمثليين أدوار المتحرشين والمعتوهين والتابعين والخدم. لست هنا بصدد عرض وافٍ للمثلية في السينما المصرية، بل هو عرض موجز لما وراء تلك الأدوار من نخبٍ مصرية لن تنساها الذاكرة الثقافية المصرية.



عدم شموليّة النقد
رمزيّة القضيب داخل أروقة الاجتماعات المصرية، على المستوى الفردي أو الجمعيّ، لها مكانتها، سواء كانت رمزية نفسية بحتة داخل البيوت المغلقة على أُسرّها، أم رمزية نفسية مأخوذة من المحيط الاجتماعي والسياسي القائم وقتها. تلك الرمزية أثرت بشكلٍ أو بآخر في كتابة القصص، وتجسيدها في السينما المصرية. قديماً، لم تكن أي مبادرات أو جمعيات نَشِطة في تحسين أو دعم صورة المثليين جنسيّا أمام المجتمع، قلّة مهمّشة تعيش بقضيب مُعطّل، تصوّرهم الكاميرات على أنّهم تابعون وخدم لأبطال القصة، أو نساء لديهن انحرافات في ميولهن الجنسية ويستحقنَّ العقاب أو على الأقل العلاج كما صوّروهنَّ. أي المرأة التي لا يعيبها قُبحها أو الرجل كامل الذكورية بالمعنى البيولوجي والنفسي، أي صاحب القضيب الفعّال، يكونان هما أبطال العمل، وكانت تلك الصورة المتأصلة في الذكورية من صناعة كبار النخب المُعبّرة عن الثقافة المصرية، الذين أولوا الاهتمام بمثليّة الرجل أكثر بكثير من مثلية المرأة، وذلك كانعكاس لأفكارهم التي تحصر المثلية في فعّالية القضيب من عدمها.

وبالنسبة للمجموعات التقدمية الموجودة وقتها (النصف الثاني من القرن العشرين) سواء كانوا أحزاباً أو أفراداً، فكان جُلّ مسعاهم مقصوراً على الإصلاح السياسي، والعدالة الاجتماعية، والانتقال الديموقراطي، إذ كانت الحقوق المدنية وقتها متمثلة في شكلٍ جمعي يخص العدالة، وحرية التعبير. وكانت الحقوق الفردانية في اختيار الجندريّة أمراً غير مطروح في منطقتنا العربية. وغربياً، كانت المثلية في بداية صراعها مع المجتمع والسلطة من ناحية القبول وسنّ التشريعات، ولم تكن المكتسبات التي حققها مجتمع "الميم" في الوقت الحالي موجودة آنذاك، حيث بدأت الاحتجاجات المطالبة بحق الاعتراف بالجنس المثلي العام 1969 في الولايات المتحدة بنيويورك، بعد اشتباك الشرطة مع رواد مثليي الجنس في احد النوادي الليلية، إلى أن أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية العام 2015، حكما قضائيا يعترف بحق الزواج للمثليين جنسياً في جميع الولايات الأميركية، إذ لم تكن جميع الولايات قد سنّت هذا القانون.

لكن مع دخول الألفية الثالثة، تطور الهامش الحقوقي في الفضاء السياسي/الاجتماعي في منطقتنا العربية، وفي القلب منه منظمات حقوق الإنسان التي اهتمّ بعضها بالحقوق الفردانيّة، على سبيل المثال المبادرة المصرية لحقوق الشخصيّة التي بدأت في الدفاع عن المثليين جنسياً وحقّ اختيار جندريّتهم، والحق في اختيار أنماطهم الجنسية، وفقاً لما يحبّون لا وفقا لما يريد المجتمع أو السلطة.

هذا الهامش لطالما تبلور في كتابة المقالات، في المنصات التقدميّة، اليسارية والليبرالية، أو إقامة حملات المناصرة في الفضاء الافتراضي أو الواقعي لدعم قضية المثلية الجنسية، فضلاً عن انتقاد من يرفضها بالحجّة الدينية. لكن وللمساواة في النقد، وسد فجوات الازدواجية، كان يجب انتقاد كاتبي القصص، ومصوّري الأعمال التي شوّهت المثلية الجنسية قديماً أو على الأقل حديثا، ويجب النقد اللاذع للراحلين مثل نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، صلاح أبو سيف، سمير سيف. وللحاضرين مثل خالد يوسف، علاء الأسواني، بالإضافة إلى الممثلين الذين قبلوا القيام بتلك الأدوار المُهينة لفئةٍ جندرية مهمّشة ومضطهدةٍ، يوسف شعبان وفاروق فلوكس وخالد الصاوي.

ترجع ازدواجية معيار النقد لدى بعض تلك الأوساط، وليس كلها، إلى هشاشة التصوّر الهوياتي للمجتمع المصري، وغياب حقيقي لنقد أو مساندة ما يمثّلونه من قضايا، بل جلّ التركيز كان لنقد الأفراد/الحركات الدينيّة، وسط استقطاب هويّاتي هشّ، ديني/علماني إن مكّننا القول، وهذا مدخل كبير لنقد التقدمية الليبرالية، المُتماهية مع الرأسمالية التي سلّعت الجسد الأنثوي. فتجد على سبيل المثال، انتقاداً لاذعاً لكل الأوساط المجتمعية الدينية أو غيرها، المستنكرة أزياء الفنانة المصرية رانيا يوسف، مستندةً على حقّها في ما تلبسه، لكنّها تغيب عن نقد رانيا يوسف ذاتها وهي تجيب بكل فخرٍ أن الله أعطاها نعمة، تقصد مؤخرتها، لا مانع من إظهارها، في تسليع صريح منها لجسدها، ومحو كامل لإنسانية وعقل الأنثى خلال حديثها في برنامج "مع الفارس"، إذ تجد حديث الفنانات في البرامج عن أجسادهنّ فقط، ولماذا هي تثير الجدل، ولا يُسألون في العقل أو الفن أو غير ذلك ممّا يفترض أن يدور الحديث حوله. كما يغيب النقد للاتجاه السائد للفتيات الشابات في تماهي أجسادهنّ كَدعاية لمُنتجات كبرى وصغرى الشركات، فيما تعرف تلك الوظائف بمسمّيات الفاشونيستا Fashionista والموديل model، وممارسات أُخرى كثيرة تُفعّل ازدواجية النقد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب