الثلاثاء 2021/08/31

آخر تحديث: 08:56 (بيروت)

ميشال أصفر وليليان جرمانوس غزالي..رائدا التحليل النفسي في لبنان

الثلاثاء 2021/08/31
ميشال أصفر وليليان جرمانوس غزالي..رائدا التحليل النفسي في لبنان
ليليان غزالي
increase حجم الخط decrease
تجمع السرديات التأريخية حول بداية التحليل النفسي في لبنان على كون ميشال أصفر هو أول محلل نفسي لبناني. وأصفر كان قد ولد العام 1931، سافر إلى فرنسا، حيث درس الطب النفسي في باريس قبل أن يشتغل في عدد من مشافيها. بالتوازي مع تحصيله الطب النفسي، انتسب إلى "جمعية باريس التحليلية". هذه الجمعية، أطلقتها ماري بونابرت، التي تحللت على اريكة فرويد مثلما تتلمذت عليه، مع عدد من المحللين الذين يهتمون بنشر التحليل النفسي في فرنسا. اسست هذه الجمعية العام 1934 معهدا للتكوين على التحليل، وقد ادارته بونابرت نفسها، قبل أن تغلقه الحرب العالمية الثانية، ثم يفتح أبوابه من جديد بعد سنوات من التحرير، اي العام 1952 تحديداً. أصفر تكوّن كمحلل في هذا المعهد، الذي، وبحسب قانونه آنذاك، يشترط عليه أن يكون قد تحلل على اريكة محلل من الجمعية لبعض السنوات لكي يتيح له الانتساب اليه. أما بعد تكوينه، فيصير عضوا في الجمعية اياها. لقد قبلت الجمعية عضوية اصفر في العام 1975، اي انه، وعلى الاغلب، قد بدأ تحليله في الستينيات قبل أن يصير محللاً، ثم يرجع في ما بعد للممارسة كمحلل في لبنان.
مع عودته إلى مسقط رأسه، اطلق اصفر مؤسسة تعنى بالأطفال، وباشر بنشر التحليل النفسي بين الشباب من الأطباء النفسيين. ولكن، في حين انه كان يشرع في تجربته هذه، كمحلل بدايةً، ثم كمُعرّف بالتحليل، ومعهما، كطبيب من قماشة مختلفة، كان لبنان ينتقل إلى حربه الاهلية، التي سرعان ما اطاحت بتلك التجربة بكاملها. فمؤسسة أصفر توقفت عن العمل، أما، نشر التحليل النفسي والتعريف به، فقد انتهى إلى مأساة تامة. ففي نهاية العام 1978، سقطت قذيفة مدفعية على منزل أصفر في شرق بيروت، واردته. قتلت الحرب الأهلية اول محلل نفسي لبناني عن عمر 47 عام، فصار التحليل بلا رائده، كما انتهت كل مسيرة هذا الرائد إلى ما يكاد يكون أثراً مضمحلاً، لولا نص بعينه، وهو نعيّه. كتب هذا النعي صديق وزميل أصفر، المحلل النفسي الفرنسي بول كلود راكامييه، في مجلة "جمعية باريس التحليلية". في هذا النّعيّ، يتحدث راكامييه عن أصفر، مشدداً على حماسته، التي طبعت بدايةً علاقته بالتحليل النفسي، إذ إنها شبيهة بحماسة رواد التحليل التي ما عادت موجودة في أوروبا. كما أن حماسة أصفر قد طبعت ايضاً حبه للبنان، الذي لطالما كان يريده بلداً أفضل، والذي لم يكن يريد تركه رغم انه كان، وفي مجيئه إلى فرنسا، يأتي إلى بيته. يشير راكامييه إلى انه اكتشف لبنان بواسطة أصفر، بحيث أتى إليه لانجاز مهمة كلفته بها "الجمعية الدولية للتحليل النفسي"، فيتذكر اللون الأحمر لشقائق النعمان في بعلبك وخضرة جبيل التي بدت له كأنها كانت قد ولدت من دم ادونيس، ولكن، "للأسف، اليوم فُقد دم آخر".
رحل المحلل النفسي الأول في لبنان مقتولاً، وفي أثناء بلوغه هذا الحتف المأسوي، كان دار "مكتبة أميركا والشرق"، الذي يتسم بوجهة استشراقية، والذي يقع في حي سان سوبليس في باريس، يقدم على نشر كتاب جديد. يحمل هذا الكتاب عنوان "الفلاح والأرض والمرأة- التنظيم الاجتماعي لقرية في جبل لبنان"، وقد وقع بإسم ليليان جرمانوس غزالي الذي ألفته اساساً كأطروحة دكتوراه في الاثنولوجيا في جامعة ليون الثانية، متناولةً فيها حال بلدتها العاقورة.

وضع جان جيرار، استاذ الاثنولوجيا في هذه الجامعة، الذي اشرف على بحث جرمانوس غزالي، توطئة الكتاب، مشيراً إلى أنه يتيح فهم العالم اللبناني الذي ينتمي إلى الأمس في مقابل مما هو عليه وضعه اليوم. بعد هذه التوطئة، اختارت جرمانوس غزالي اقتباساً لتفتح فيه دراستها: "إلى احدٍ ما... فبفضله، هذه [المقدمة] هي بمثابة اشارة". هذا الاقتباس هو جملة فتح فيها جاك لاكان مقدمة "كتابات" حين نشرتها "دار سوي" ككتاب جيب. إذ إن جرمانوس غزالي، التي ولدت العام 1939 في بيروت، كانت، وبالتوازي مع دراستها الاثنولوجيا في فرنسا وتعليمها الفلسفة في لبنان لسنوات في ما بعد، تخوض التحليل، وتتكون عليه، وهذا، لتصير لاحقاً اول محللة نفسية لبنانية.


في الواقع، لم تكن جرمانوس غزالي أول محللة فحسب، بل، وعلى الاغلب، اول محللة آتية من علم إنساني وليس من الطب النفسي، وهذا، ما أسند تجربتها ببعد نظري مختلف، وقد ظلت عليه من الثمانينات حتى رحيلها منذ اقل من عقد. لقد انتسبت جرمانوس غزالي إلى الجمعية اللبنانية للتحليل النفسي بعد تأسيسها في شهر آذار من العام 1980، وقد عُرف عنها ريادتها في وضع التحليل النفسي على اتصال مع اليومي، بما هو معاش وبما هو قضايا وبما هو اشكاليات. فتفسر في إحدى المقابلات معها طفرة عمليات التجميل من باب ان الحرب الأهلية قد فتحت الباب من بعد انتهائها على ثقافة المظهر والفورية، التي تؤدي مزاولتها دوراً بعينه. فعمليات التجميل، بما هي من هذه المزاولة، تتيح للبنانيين ان يتحكموا باجسادهم بوصفها الشيء الوحيد الذي لهم وطأة عليه في حين لا يتحكمون بأي شيء، أكان حاضرهم، أو مستقبلهم، أو أي قرار يتعلق بوجودهم. الخضوع لعملية تجميل هو محاولة "انطواء على الذات"، للسيطرة على بدل عن ضائع أو بالأحرى مدمر.

في هذه الجهة، لا بد من الإشارة إلى اهتمام جرمانوس غزالي المستمر بالحرب الاهلية، التي أشارت ذات مرة إلى أنها كانت مجالاً مهماً لتحرر النساء من خلال عملهن السياسي أو الحربي قبل أن يعود النظام الذي رسا بعد الطائف، إلى القبض عليهن، وتخييرهن بين "كوني أم واسكتي" و"اخضعي واسكتي". في هذا السياق، تستفهم جرمانوس غزالي إن كان القبض على النساء بعد الحرب كان سببه صعود الاصوليات على انواعها، أو التوبة الطهرانية عن "فوضى" الحرب، أو أن الذكور قد وضعوا ايديهم من جديد على النساء خوفاً من خسارة سلطتهم. في المطاف عينه، عمدت جرمانوس غزالي الى الربط بين العوارض والحالات وما سمته ذات مرة الفضاء الثقافي اللبناني الحديث، بحيث أنها درست مثالاً لا حصراً الهيستيريا مثلما درست المراهقة المتواصلة فيه. نافل القول إن تناولها لهذه المواضيع وسواها كان متعدد المنظورات، كما لو انها كانت تريد أن تغني التحليل النفسي بها، فيكون، وبفعل ذلك، على رحابته.

لقد واظبت ليليان جرمانوس غزالي على الاهتمام بهذه الرحابة طوال اكثر من ثلاثين عاماً عبر ممارسة التحليل وتقديمه والتكوين عليه في لبنان، وهذا، إلى أن وافتها المنية في شهر آب من العام 2013، تاركةً خلفها تجربة واسعة، كثرت النقاشات والمداخلات فيها. 


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها