الثلاثاء 2021/08/03

آخر تحديث: 15:20 (بيروت)

فنون 4 آب: الحداد المجاني

الثلاثاء 2021/08/03
فنون 4 آب: الحداد المجاني
من كليب "لحظة مرفأ"
increase حجم الخط decrease
في بينالي البندقية 2019، أثار "عمل فني"، تحت مسمّى "سفينتنا"، جدلاً أخلاقياً عارماً بشأن تحويل مأساة إنسانية إلى مشهدية، أو بالأحرى مسرحتها. كان كريستوف بوتشيل قد عمل على جلب حطام السفينة التي غرقت في البحر المتوسط العام 2015، وغرق معها 800 مهاجر خلال سعيهم إلى شق طريقهم إلى أوروبا. فهل هو نوع مقبول من "الاحتجاج" ولفت النظر إلى المأساة؟ أم أنها استهانة بضحايا الكارثة، إذ جُعل موت الهاربين من نير بلدانهم وأنظمتها، أولئك الحالمين بمستقبل أفضل لأنفسهم وعائلاتهم، فرقعة استعراضية بتيمة المعاناة الإنسانية؟.. في رأي كثيرين، كثّف هذا "العرض الفني"، موتاً تراجيدياً، في كبسولة ترفيه "هادف"، لتتلقفه نظرات سياح ثقافيين في واحدة من أيقونات مدن العالم في سياقات الفن واللهو والعطلات الرومانسية. وبقي النقد بلا حسم.


قد نستعيد إشكالية "سفينتنا" في ذكرى تفجير مرفأ بيروت، وما يُغزل حولها من أعمال فنية لبنانية، تشكيلية أو تجهيزية أو موسيقية أو فيديوهات غنائية. التساؤلات تزداد إلحاحاً وتفرعاً إذ يعمل "الفن" الآن على أرض الفاجعة. ولعل بعض الإجابات الممكن إسقاطها على الحالة اللبنانية، تبرز في مقالة سوزان سونتاغ الطويلة عن الفوتوغرافيا (2003)، والمعنونة "بخصوص ألم الآخرين". تقول سونتاغ إن الادعاءات المعنوية للفن ترتبط بمدى قربنا من الحدث المعني، وترتبط أكثر بقدرتنا، أو انعدام هذه القدرة، على الفعل. بمعنى، أن رؤيتنا للمعاناة قد تحفزنا – بالسخط – على ردّ فعل عملي ما. أو أنها، على العكس، تسحب فتيل الحساسية على مهل، لتوصلنا إلى شيء من الخدر، ثم اللامبالاة. التعاطف، بحسبها، عاطفة غير مستقرة، إما أن تترجم إلى فعل، أو تذوي. كانت سونتاغ تكتب، غداة أحداث 11 أيلول الأميركية، والتي تحولت بسرعة إلى عرض تلفزيوني عالمي على مدار الساعة، وخُلق بموازاتها ذاك الانشداه المشلول بصُور الكارثة التي ربما ثمة من لم يتعافَ منها بعد.

وقبل التعمق في النتائج الفنية، من قبيل الفعل/الخدر، يمكن القول، بأمان، إن معظم الانفجار الإبداعي اللبناني بعد سنة على انفجار نيترات الأمونيوم مشوب بالركاكة ومغلّف بالقشرة التي، إن تساقطت، لا يبان تحتها سوى غياب السياسة، المُفرغة من موضوع سياسي بامتياز، كما غياب الموقف المركّب والفردانية التي يُنتظر أن تبث معنىً عامّاً جامعاً مُحرّكاً لمشاعر أو أفكار صلبة. الأمثلة كثيرة، وتزداد انحطاطاً ورثاثة في الانتاجات السمعية البصرية المنتشرة في التلفزيونات وشبكات التواصل الاجتماعي، مثل أغنية/فيديو تانيا قسيس التي تجافيها الأوبرا أكثر مما تطاوعها فيما تتبختر في غابة ومبنى مهدم، بفساتين سهرة "سيكسي" وهندام لا تهتز في تلاصقه شَعرة.


أما القصيدة المغنّاة "لحظة مرفأ"، من تأليف الوزير السابق ملحم رياشي، فبعيدة من الشِّعر ومن المحكي اليومي بالسوية نفسها، لتخرج هجينة حتى في تفككها وبهتانها.


ومعرض "معاً" شارك فيه 17 فناناً في غاليري تانيت الذي صرّحت صاحبته، نايلة كتانة، بأننا "لن نتمكن من إعادة الإعمار إلا معاً، والسماح لكل منا بالتعبير عن حساسيته الخاصة وطرق صياغته لها"، وكأن المشكلة في سقف التعبير الفردي وأساليبه، وكأن الـ"معاً" هي المفردة/الفعل الناقصة في ظل قضاء وقانون مضروبَين بألاعيب المنظومة اللبنانية وفسادها.

أما النشاط المُجدوَل لمساء اليوم الثلاثاء، في سان فرانسيسكو، والذي سينقل عبر تطبيق "زووم"، فربما يصعب الحكم عليه الآن، لكن أخباره الاستباقية لا توحي بتفوقه على معايير ما سبق من نشاطات إلا بالقليل، إذ وَرَد أن المديرة الفنيّة والتنفيذيّة لمسرح "غولد ثريد"، سحر عساف، تعمل على تقديم قراءة مسرحية، تحت عنوان "من قلب بيروت"، تحكي ما حدث في الرابع من آب، للحفاظ على الذاكرة الجماعية لانفجار 4 آب. و"لا تخفي عساف خوفها من محاولات السلطة لجعل ذكرى الانفجار في عداد النسيان. لذلك تأتي القراءة المسرحية بوجه السلطة التي تعمل بكل أجهزتها على محو ذكرى الانفجار بشتى الطرق"... وكأن المُصاب مهدد فعلاً بالنسيان، في حين أنه ما زال طاغياً طغيان الحرّ في أعتى أيام الصيف، والذاكرة الجماعية ههنا لا تحتاج إنقاذاً ولا حفظاً إذ لم يتحول الافجار حتى إلى ذكرى، بل هو واقع ما زال مُعاشاً.

وتتعدد مهام فناني "من قلب بيروت": التعامل مع التروما الجماعية، البحث عن دور الفن في تحقيق جزء من الشفاء، إضافة إلى الشرح القانوني لأشكال التعويضات لأهالي الضحايا والمتضررين. يبرز هنا المعطى التوثيقي والحقوقي و"الإسعافي" النفسي المتداخل مع الفن، لكن السؤال يبقى لناظري الحدث: ما المختلف عما يمكن أن تفعله جماعات المجتمع المدني؟ وما جدواه الحقيقية بين جمهور الفن المُنتقى دون العائلات المعنية؟ وما وزن الفن هنا أصلاً؟

قد نذهب أبعد في البحث، مستذكرين لوحة "غيرنيكا" (1937) لبابلو بيكاسو، مثلاً، والتي خلّدت ضحايا القصف الجوي للبلدة الباسكية خلال الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939). في يناير 1937، حين كان بيكاسو يقطن في باريس، كلّفته الحكومة الجمهورية الإسبانية بإنشاء لوحة جدارية كبيرة للجناح الإسباني في معرض باريس العالمي العام 1937.



عمل بيكاسو بهدوء من يناير حتى أواخر أبريل، على رسوم أولية للمشروع صوّرت موضوعه الدائم عن استديو الفنان. بعد ذلك، وفور سماعه تقارير عن قصف غيرنيكا في 26 أبريل، زاره الشاعر خوان لاريا، لحثّه على جعل القصف موضوعه. بعد أيام ، في 1 مايو، قرأ بيكاسو رواية الشاهد العيان جورج ستير، عن الهجوم، والتي نُشرت في الأصل في صحيفتي "نيويورك تايمز" الأميركية و"ذا تايمز" البريطانية في 28 أبريل، فتخلى عن فكرته الأولية، وبناءً على اقتراح لاريا، بدأ رسم سلسلة من الرسوم الأولية لغيرنيكا التي باتت من أشهر أيقونات الحرب.

وتحضر أيضاً سلسلة مطبوعات "كوارث الحرب"، لفرانسيسكو غويا، التي وضعها بين العامين 1810 و1820، متأثراً بانتفاضة الثاني من مايو 1808 وصولاً إلى قمة تفاعلات الصراع الدموي النابليوني مع إسبانيا. ورغم أن غويا لم يعلن نيته عند إنشاء اللوحات، فإن مؤرخي الفن ينظرون إليها على أنها احتجاج مرئي ضد عنف 1808، وحرب شبه الجزيرة اللاحقة، والنكسات التي لحقت بالقضية الليبرالية بعد استعادة مَلَكية البوربون العام 1814.



وإذ احتفظ غويا بمنصبه كرسام أول لبلاط التاج الإسباني، خلال الصراع بين الإمبراطورية الفرنسية النابليونية وإسبانيا، فقد استمر في إنتاج صور الحكام الإسبان والفرنسيين. والحال إن "كوارث الحرب" لم تُنشر حتى العام 1863، أي بعد 35 عامًا على وفاته. والأرجح أنه، عندها فقط، كان آمناً سياسياً توزيع سلسلة أعمال فنية تنتقد الفرنسيين وملوك البوربون معاً.

في حالتي بيكاسو وغويا، كان الفن، بشكل من الأشكال، بديلاً إعلامياً، ودعائياً–نضالياً، وفعل مقاومة. وفي حالة غويا بالتحديد، كان مرور الزمن قد جعل من مطبوعاته وثيقةً بمعنى ما، واستعادةً لماضٍ عسير في حاضر متخفف -زمنياً على الأقل- من الحدث.

لكن اليوم، الحاضر هو الكارثة، والكارثة مستمرة بلا عدالة ولا محاسبة ولا حتى إجابات أولية في الآني والمستقبلي المنظور. كارثة عمرها سنة وما زالت تبعاتها مهيمنة. والأعمال المطروحة لا ترقى إلى النشاط السياسي أو المدني المؤثر الضاغط من أجل تغيير ما في حالة العدالة المعلقة، وذلك قبل أن نتطرق إلى القيمة الفنية الضحلة والإبداع المكلوم كما المدينة. بل أكثر من ذلك، قد نجدها مساهمة في تفريغ الغضب التحريكي، ضمن شحنات من حزن أو أمل زائف بقيامة وصمود وإرادة حياة. الغضب يبقى غضباً أجوف، والاستنكار جامداً في مكانه. حُقَن خَدَر، إزاء المقتلة، بتصويرها دون القاتل. والتعاطف مهدد بتجريده من قوة الحساسية التي تحدثت عنها سونتاغ. ونجدنا أمام مأساة ضحايا بلا سياق، مُطلَقة، مجرّدة إلا من اللوعة ومشاعر الحداد المجاني، ناهيك عن مغازلة المتمول والمسؤول والسياسي والسلطة في "مارد" نديم كرم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها