الإثنين 2021/08/30

آخر تحديث: 07:34 (بيروت)

ياسر هواري... مارلون براندو الصحافة العربية

الإثنين 2021/08/30
ياسر هواري... مارلون براندو الصحافة العربية
increase حجم الخط decrease
كان ياسر هواري يريد أن يصبح ممثلاً سينمائياً، أو طياراً مدنياً، ولكنه اتجه نحو الصحافة التي بدأت كهواية، وبقيت على هذا المنوال حتى تولى المسؤوليات الكبرى، التي خاض غمارها مبكرا. وقبل أن يبلغ الثلاثين من عمره تولى رئاسة تحرير واحدة من أصعب الممطبوعات، "الشبكة"، المجلة التي صدرت عن دار الصياد. ورمى عميد الدار سعيد فريحة حملا ثقيلا على ظهر الصحافي الشاب، عندما طلب منه "إصدار مجلة تعجب الشاعر سعيد عقل وسائق التاكسي معا"، ونجح في المهمة، وبذلك سار أول خطوة على طريق صعب وطويل.


حين يدونون تاريخ الصحافة العربية الجديدة، سيكون اسم ياسر مكتوباً بحروف بارزة، فهو أحد المؤسسين الكبار الذين أطلقوا المجلات الناجحة، وربوا أجيالا من الصحافيين تحملت عبء ومسؤولية بناء إعلام عربي حديث، واكب تطورات الأحداث، وحاكى الإعلام العالمي. هواري ابن جيل النهضة الإعلامية العربية التي عرفتها بيروت في الستينيات وحتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، حين اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، وأجبرت نخبة من الإعلاميين على الهجرة، فتوزعوا ما بين باريس ولندن حسب الخلفية الثقافية لكل منهم. ومن باريس أطلق مشاريع جديدة كان الأبرز بينها مجلة "كل العرب"، الاسبوعية التي كانت مدرسة مهنية على صعيد كتابة الموضوع، واستعمال الصورة، وتغطية الأحداث بمهنية وجاذبية، وبذلك بقي مخلصا لما تعلمه وطبّقه في الخمسينيات، حين ترأس تحرير مجلة "الشبكة" التي كانت عبارة عن مزيج من التحقيقات الفنية والصور على منوال مجلة "باري ماتش" الفرنسية.

كل من عمل مع هواري او عرفه خلال مسيرته المهنية الطويلة يقدّر فيه المهنية العالية، وتمتعه بحس الريادة الذي اقتصر على فئة قليلة كانت وراء التجربة الصحافية العربية التي بدأت من بيروت في الخمسينيات، ومن هؤلاء سعيد فريحة صاحب ومؤسس دار الصياد، غسان تويني في دار النهار، وسليم اللوزي مؤسس وصاحب مجلة الحوادث. واحتل هواري مكانة خاصة بين الكبار لأسباب عديدة. أولها تقديم اقتراح مهني جديد لم تعرفه الصحافة اللبنانية من قبل، قائمٍ على الجمع بين الفائدة والمتعة في المادة الصحافية، الأمر الذي يتطلب تقديم المضمون في شكل جذاب يعتمد على توزيع رحب للمساحة واستخدام ذكي للصورة، وتوظيف النص كي يكون شريكا وليس الشريك الأوحد وفي صيغة قصة، ولهذا عرفت مجلة "الشبكة" ازدهارا في الفترة التي ترأس تحريرها لم تشهده مع الذين جاؤوا من بعده. والسبب الثاني الخط التحريري المختلف الذي كسر الطوق المحلي الذي ضربته الصحافة اللبنانية حول نفسها، ليصنع بُعدها العربي على نحو منهجي مدروس ومهني لأول مرة، وكان ذلك أول جسر يمتد على أسس راسخة بين لبنان والعالم العربي. أخذ لبنان إلى العرب، وجاء بالعرب إلى لبنان. وكان ذلك من مجلتي "الشبكة" و"الأسبوع العربي" المملوكة من قبل الناشر جورج ابو عضل. وبدأ هواري يشكل علامة فارقة في الصحافة العربية من "الأسبوع العربي" التي تولى رئاسة تحريرها وهو لم يبلغ الثلاثين بعد، ولكنه تمكن خلال زمن وجيز أن يجعل منها حديث الأوساط الإعلامية والسياسية والثقافية العربية، لأنها صدرت وفق منطق المجلة العربية، وليست اللبنانية التي كانت تنشر موضوعات عربية لأهداف الربح المادي فقط.، وأنهى هواري مدرسة كانت سائدة في الصحافة اللبنانية تقوم على التكسب من نشر أخبار زعماء الخليج سلبا أو إيجابا، وبسرعة شديدة انتشرت "الأسبوع العربي" في العالم العربي ككل، واشتهرت بالتحقيقات الجريئة والجديدة التي ذهبت إلى مناطق بعيدة، وربطت بذلك أجزاء العالم العربي، في وقت استقطبت أقلام كبار الكتاب والمثقفين العرب. وهي المجلة السياسية الأولى التي تجرأت أن تصدر بقضية ثقافية على الغلاف، ومن ذلك الغلاف الذي خصصته لخروج الشاعر محمود درويش من فلسطين، ومنحت الرحابنة أغلفة عديدة، والأمر ذاته مع نزار قباني، الذي كرست أكثر من غلاف لقصائده الجديدة. واعترف هواري أن أحد أسباب الإقبال الذي لقيته "الأسبوع العربي" في حينه يعود إلى الشكل والمضمون الذي قدمت به نفسها، وهو مستوحى في جانب كبير من مجلة "تايم" الأميركية التي أمضى هواري قرابة عام يعمل في مكاتبها في نيويورك قبل تأسيس "الأسبوع العربي"، التي كانت قد اختمرت في رأسه كفكرة لقيت صدى واستجابة حين عرضها على رجل الأعمال الناشر جورج أبو عضل.
ويعتز هواري بأنه لم يهاجم أحداً طيلة مسيرته المهنية. ورغم اختلاف وتعدد المنابر التي عمل فيها، فإنه لم يدخل في معارك سياسية او فنية. ويرى البعض في ذلك عيبا كبيرا لأنه بعيد عن الموقف، في حين أن هواري ينظر للأمر من زاوية أخرى وهي أن الصحافة الجيدة يجب أن تبتعد عن منهج الصحافة الصفراء، وهذا ما طبقه في كافة التجارب التي خاضها في "الشبكة"، "الاسبوع العربي"، "الديار"، "كل العرب"، و"أرابيز" التي أصدرها بالفرنسية كمجلة شهرية قبل أن ينتقل لتجربة المواقع الالكترونية باللغتين العربية والانكليزية. ولم يكن لينجح في تجنب الإنزلاق إلى الحروب الإعلامية العربية، لو لم يتوفر له تمويل مستقل نسبيا من جهة، ومن جهة ثانية تمتعه بموقف أخلاقي وقدرة على مقاومة للضغوط، ومن ذلك الذي تعرضت له "الأسبوع العربي" من قبل عبد الحميد السراج أثناء الصراع بين عبد الناصر والملك سعود. ولأنه نجح في تجنيب المجلة الوقوف مع أحد الطرفين ضد الآخر، اكتسبت المجلة مصداقية أكبر، ولقي هواري تقديرا واحتراما لموقفه، وبقي في تاريخ الصحافة العربية علامة فارقة، وينقل عنه الذين عملوا معه أنه مبدأه في العمل كان يقوم على "كل ما تضيفه الى شخص مما ليس فيه، هو انتقاص منك، وبالوزنة ذاتها".
حين غادر هواري بيروت في منتصف سبعينيات القرن الماضي بسبب الحرب الأهلية ذهب إلى باريس وعمل لفترة في مجلة الحوادث، ولكنه بقي يبحث عن مشروع جديد يعيد من خلاله إحياء مشروع "الأسبوع العربي"، فكان أن أصدر مجلة "كل العرب" التي التحقت بالصحف العربية التي صدرت في اوروبا، ما بين باريس ولندن كالحوادث والمستقبل، وفي وقت متأخر قليلا صدرت مجلة "اليوم السابع" من باريس، وكانت منافساً فعلياً لـ"كل العرب". وفي اللقاءات التي كان يعقدها هواري على نحو اسبوعي مع مجموعة قليلة من الصحافيين، كان صريحا في تقييم الصحافة العربية، وغير متعصب ل"كل العرب" التي غادرها لتأسيس "أرابيز" بالفرنسية، قبل أن تقوم السلطات الفرنسية بإغلاق "كل العرب" بسبب حرب الخليج العام 1991. وحين يتحدث هواري عن مساره المهني فإنه يختصر دوره ب"جندي في الصحافة اللبنانية التي استطعت أن أخرجها إلى الساحة العربية ومن ثم إلى الساحة الدولية"، ومثال ذلك الوصفة التي وضعها ل"الأسبوع العربي": 30% لبنانية و70 % عربية دولية.
رئاسة التحرير بالنسبة لهواري ليست موقعاً شرفياً، بل إنه عبارة عن مسؤولية كبيرة، يتم النهوض بها بالعمل الذي لا يتوقف على مدار الوقت، إلا أنه من زاوية أخرى تبقى الصحافة بالنسبة له هواية قبل كل شيء. ومن يأتي إليها كمهنة يمر كواحد من العاملين فيها، ويذهب أبعد حين يصفها بقوله "مثل الزوجة الثانية التي تنافس الزوجة الفعلية"، وإذا لم يعطها الصحافي كامل وقته فإنها يخسرها، ورغم المبالغة في الحديث عن موضوعية الصحافة، فإنه يعترف بأنها لا يمكن أن تكون مائة في المائة، ونادرا ما يستطيع الصحافي أن يكون مجردا من مشاعره وأحاسيسه، ولابد أن يطبع المادة الصحافية بذاتيته.
ويقول هواري في أحد احاديثه التلفزيونية النادرة، أن الفضل في توجهه بصورة نهائية للعمل الصحافي، في حين كان يفكر بمهنة الطيار المدني أو التمثيل، ومثاله مارلون براندو، يعود إلى الصحافي أميل الخوري الذي كان من كبار كتاب صحيفة الأهرام المصرية في الثلاثينيات، والذي ذهب في تغطية إلى دول البلقان، وكتب سلسلة من التحقيقات، وخلص إلى أن الحرب العالمية الثانية على الأبواب، وبالفعل وقعت بعد فترة قصيرة. وقال هواري"قصتي معه طريفة، فقد انتدبته الديار ليعمل مستشاراً، وذات يوم طلب أن يراني، فقال لي يا ابني اذا استمريت على هذا المنوال ستكون صحافياً كبيراً، وبعدها تفرغت للعمل الصحافي، واجريت دورة في العمل الصحافي بلندن في كلية الصحافة، والتي أثرت في وحددت مساري المهنين ومنحتني الراحة واعطتني الرؤية للعمل".
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها