الأربعاء 2021/08/25

آخر تحديث: 08:46 (بيروت)

"كودا" لسيان هيدر... إيماءات الحياة

الأربعاء 2021/08/25
increase حجم الخط decrease

لم يفت الأوان بعد لتعلُّم لغة جديدة. بعد مشاهدة هذا الفيلم، تشعر على الفور بالحافز للقيام بذلك، مأخوذاً باناقة وشاعرية وصخب ومرح وخشونة تلك الإيماءات غير المألوفة التي تتحادث بها شخصياته وتتغازل وتتجادل وتتواصل حول كل ما له أهمية حقيقية في الحياة: كيف تثبّت الواقي الذكري بشكل صحيح على عضوك حتى لا يحدث ما لا يُرغب به؟ ماذا تفعل حيال الأكزيما المسببة للحكّة في منطقة الأعضاء التناسلية؟ ما هي أفضل طريقة لبدء مشاجرة في حانة؟ وفوق كل ذلك: ما القيمة العادلة مقابل ما تصطاده من أسماك؟

كان "كودا" الفيلم الثاني للمخرج سيان هيدر بمثابة الحصان الأسود للنسخة الأخيرة من مهرجان صندانس السينمائي، حيث فاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى وجوائز أفضل مخرج وأفضل ممثل وتصويت الجمهور. النجاح الجماهيري الذي حققه الفيلم كان كبيراً إلى حدّ أنه بعد عملية مزايدة شاقة مع شركات البث الأخرى، دفعت "آبل بلس" مبلغاً قياسياً قدره 25 مليون دولار للحصول على حقوق توزيعه وعرضه في جميع أنحاء العالم. الآن، سيتمكن الجمهور من معرفة ما إذا كانت النسخة الأميركية من فيلم إريك لارتيغاو الفرنسي "عائلة بلييه" (2014) ترقى إلى مستوى الضجة التي رافقتها منذ عرضها أوائل العام الجاري أم لا.

يدور "كودا" حول عائلة صيادين في بلدة ساحلية صغيرة تتبع ولاية ماساتشوستس الأميركية حيث يعاني الجميع تقريباً من الصمم: الأب الريفي (تروي كوتسور) بلحيته الهائلة، والأم (مارلي ماتلين) التي توجت ذات مرة ملكة لجمال الشواطئ، وكذلك الابن (دانيال ديورانت) العصبي المتحفّز على الدوام. الجميع باستثناء روبي (إميليا جونز)، الابنة الصغرى ذات الـ17 عاماً، التي وُلدت بحاسة سمع سليمة، وتعلّمت الكلام عندما كانت طفلة، رغم صعوبة ذلك عليها في البداية لأنها لم تستطع التعلم من والديها، بل من الآخرين. روبي هي "طفلة لأبوين صُمّ "، كما يسمّي أقرانها أنفسهم اليوم، أو "كودا" CODA، اختصاراً، وهي مثل كثيرين في هذه المجموعة: تخدم والديها كمترجمة، جسرهما إلى عالم الأصوات والمتكلمين. تذهب معهما إلى الطبيب لتشرح لهما تشخيصه. تساعد في صيد الأسماك على مركب العائلة، وتلقي الشباك وتجهّز الأسماك للنقل والبيع، وتتجادل مع التجار في الميناء عند محاولتهم خفض الأسعار مرة أخرى.

تحبّ روبي عائلتها، وبدورها تعتمد عليها الأخيرة إلى حدّ كبير. لكن بالطبع، تنشأ الخلافات عندما تبدأ روبي بالانفصال تدريجياً. بسبب زميلٍ تعشقه، التحقت بكورال المدرسة، وبدأت في الغناء، ثم اكتشفت موهبتها الحقيقية فيه. يريد معلمها المتفاني إعدادها للحصول على منحة دراسية في جامعة بيركلي المرموقة. الباقي يمكنك تخمينه: سيتعين على روبي وحبيبها التدرب معاً على دويتو غنائي يؤديانه في حفل المدرسة الختامي، فيما سيمزقها الاختيار بين ميلها للفنّ والغناء وواجبها في مساعدة أسرة تعتمد عليها تماماً.  تتفاعل والدتها بالخوف والتوبيخ: "لو كنت عمياء، هل ستبدئين بالرسم؟". تحاول الابنة التوضيح لها أن حياتها لا تتمحور حصرياً حول رغبات والدتها وحساسياتها.

وهكذا، يحكي "كودا" بشكل أساسي قصة نضوج في ظل ظروف قاسية. إنه يتعلق باكتشاف الذات في مرحلة المراهقة، والرغبة الواعية في الاستقلال عن الأسرة والخوف المصاحب من فقدان أمانها في الوقت ذاته. ولكن هنا، تتفاقم كل هذه العمليات وجودياً بسبب حقيقة أن اتصال والديها بعالم السمع يهدّده رغبة ابنتهما في الانفصال عن العائلة والسعي وراء تحقق ذاتها: لم يعد بإمكانهم حتى القيام بعملهم إذا لم ترافقهم روبي، ويحدث ذلك في وقتٍ بدأوا فيه بالتمرد على الاستغلال المتصاعد من قبل تجار السمك.

هذه النسخة الجديدة من "عائلة بلييه" (فيلم كوميدي أصبح ظاهرة تجارية مع قليل من السوابق في السينما الفرنسية) تتناول بدقة الجوانب العائلية والتجارية والرومانسية والفنية المختلفة للحبكة مثل شخص يملك مكونات "التتبيلة السرّية" لفيلم جماهيري محبوب ويعرف كيفية ضبط العناصر المختلفة بالمقادير الصحيحة. قد يبدو ذلك الحديث عن تتبيلة تحظى بقبول جماهيري محض ازدراء، لكن في حالة الكاتب والمخرج سيان هيدر، فهذا ميزة. فالفيلم الفرنسي الأصلي كان يدور حول عائلة مزارعة صماء تعتمد على ابنتها لبيع الجبن، وتعرّض لانتقادات على نطاق واسع بسبب حقيقة أن الأسرة - باستثناء الابن - تم تصويرها من خلال ممثلين يسمعون. بالنسبة للصمّ، وغيرهم كذلك، بدا الفيلم محاولة تفتقر الأصالة والمصداقية ومبالغ فيها إلى درجة كاريكاتورية لا تستحق الإشادة. هذا مختلف هنا، حيث أوكل المخرج الأدوار الرئيسة لأشخاص صمّ، أو لأولئك الذين عملوا لفترة طويلة من أجل ظهور مجموعتهم في السينما، من أجل التعرف على لغتهم وتقديرها.

صحيح أنه في بعض الأحيان يميل الفيلم لإلقاء الضوء على نحو مستغرب إلى موضوعات حسّاسة (مثل الشبق الجنسي للأب والأم) أو يعيد تقديم بعض كليشيهات النوع الرومانسي (مثل المشاهد المبتذلة لروبي ومايلز في البحيرة)، ولكن ما لديه من كليشيهات ومبالغات يُعوضه بما يفوقه من تناغم بين طاقم التمثيل وحساسيته. كل ممثل هنا يتصرَّف بتركيز وواقعية متساوية، التنوع ذكي وثري ولا يبدو زائداً، ويفتح المزيد من الحرية والمساحة للتألق من خلال تمثيلهم وتفاعلهم ولغتهم. يمكنك مشاهدة الصمّ في كل موقف من مواقف الحياة التي يمكن تصوّرها، وكيف يتواصلون مع لغتهم الجميلة والغنية، وكيف يهينون ويؤذون ويسيئون فهم بعضهم البعض، ثم يلتم شملهم مرة أخرى، كيف يحاول الأب أن يكون مضحكاً، فيما الخجل فقط ينال الحاضرين. حتى في لغة الإشارة، نتعلّم هنا، يمكن أن تخطئ نكات الأبّ هدفها. لكن في بعض الأحيان يكون الرجل العجوز محظوظاً وتضحك العائلة معه في الأخير. على أي حال، بعد لحظات قليلة فقط، يشعر المرء بأنه أصبح على دراية تامة بالمصطلحات غير المألوفة وبإمكانه ملاحظة القواعد الناظمة للإيماءات وتعبيرات الوجه وحركات الجسم بفرح وسحر عظيمين.


وهكذا، فإن الفيلم الذي يبدو قد شوهد بالفعل من قبل مئات المرّات (لحبكته المتوقعة وكليشيهاته المتناثرة)، يحافظ في الوقت ذاته على شيء من الأصالة باختيارات طاقم تمثيله وما قدّموه من أداءات، من الممثل الاستثنائي تروي كوتسور (الذي يبدو تجسيداً لفرانك زابا) إلى الاكتشاف الجديد إميليا جونز، التي تفعل السحر عبر لغة الإشارة. إنها قلب وروح تلك الكوميديا ​​التي لن تدخل تاريخ الفيلم الأميركي المستقل من بوابة مستواها الفني (لقد فعلت، كما أسلفنا، على المستوى التجاري)، لكنها بلا شك مسلية ومؤثرة.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها