الإثنين 2021/08/02

آخر تحديث: 11:36 (بيروت)

"العالم الآتي".. عشق ممنوع في ريف أميركا

الإثنين 2021/08/02
increase حجم الخط decrease
في أخذ الروايات الرومانسية للقرن التاسع عش، كنموذج، يمكن القول أن فيلم "العالم الآتي" يشبه تقاطعاً مثالياً بين الكون المنبثق من أعمال الأخوات برونتي، مع الروح النسوية لعالم ما بعد "#مي تو". بأجوائه القوطية وزمن أحداثه الدائرة في العام 1856 على مشارف بلدة صغيرة في نيويورك التي لم تغادر ريفيتها حينذاك، يأتي هذا العمل الثاني للمخرجة النروجية المقيمة في الولايات المتحدة، منى فاستفولد، كقصة حب مليء بالعقبات - إن لم يكن مستحيلاً – بطلتاها مزارعتين تستيقظ بداخلهما رغبة متبادلة، بين عواصف شتوية مروعة وحياة ريفية محرومة وضوء صيفي دافئ يسقط على شرفة بيت مزرعة خلاب، لكن تحاصرها تقاليد عصرهما وأزواجهما العالقين في الوقت. من أجل إيجاد الكلمات حيث تفرض التقاليد الاجتماعية الصمت، يستخدم السيناريو حيلة قديمة تليق بقصص القرن التاسع عشر: اللجوء إلى نصّ شخصي لدفع السرد وتأطيره. في هذه الحالة، تتكفّل بالمهمة اليوميات التي تكتبها أبيجيل، البطلة، والتي تقرأها من خارج الشاشة، وتعمل كناظم للفيلم وتعطيه شيئاً من هالة الشِعْر.

أبيجيل (كاثرين ووترستون) متزوجة من داير (كيسي أفليك) ويديران معاً مزرعة صغيرة في مكان بعيد من كل شيء والجميع. يعيش الزوجان معاً بشكل ودي، لكن شعوراً بالبرودة يسود أيضاً، بعدما أحدث موت ابنتهما الصغيرة بسبب الدفتيريا شرخاً بينهما. لا تعرف أبيجيل كيف تتعافى رغبتها في العيش. زوجها، الصامت والكتوم، لا يساعدها كثيرا في الخروج من هذه الحفرة العاطفية، وهو أمر يبدو أنه قادر على القيام به من خلال تكريس نفسه للعمل بشكل إلزامي تقريباً. ومن الحب القديم - إن كان هناك أي منه -  لم ينج إلا عاطفة بعيدة لا تقدر على منحهما مولوداً جديداً. تتعطَّل الحياة الريفية الروتينية لأبيجيل عند وصول زوجين انتقلا حديثاً إلى أقرب مزرعة على بعد بضعة كيلومترات. في ظهيرة أحد الأيام، أثناء قيامها بأعمالها المنزلية، زارتها الجارة الجديدة تالي (فانيسا كيربي)، التي يبرز شعرها الأحمر كنقطة ضوء في مشهد الشتاء القاتم. تفصيلٌ لا يستغلّه الفيلم ويسلّط الضوء عليه من منظور فوتوغرافي فحسب، بل ستعمل تالي أيضاً كمنارة داخل القصة، لتصبح نقطة مرجعية سردية تقدّم حالة مغايرة ليس فقط في هذه البيئة أحادية اللون عملياً، وإنما أيضاً في تلطيف وجود صديقتها الجديدة.


يولي الفيلم أهمية بالغة للوقت ويلعب مع مروره، إذ يبدأ قصته في الأول من يناير، في منتصف الشتاء الشمالي، ومنذ ذلك الحين فصاعداً، تتقدم جنباً إلى جنب مع فصول السنة، كل منها يتوافق مع محطة جديدة في رحلة علاقة أبيجيل وتالي. فإذا وجد موسم البرد بطلة الفيلم غارقة في حزنها، فإن القرب المتزايد من صديقتها الجديدة سيشعل فيها من جديد جمر عاطفة لا تزال حيّة رغم المأساة. يتبع وصول الربيع ظهور مشاعر من شأنها أن تغير مسار علاقتهما. بحلول الصيف ستنضج الثمرة، ما يفتح الطريق أمام الجسد الذي سيظهر بطرق عديدة. من ناحية، سيسمح ذلك للمرأتين بإدراك ما كان حتى ذلك الحين مجرد تعبير عن الرغبة. لكنه أيضاً سيوقظ حماسات أقل ودّية، ستعمل قواها ضد عاشقتين تنشدان الحريّة خارج القفص الذهبي. هنا ستصبح شخصية تالي مرة أخرى النواة التي تدور حولها هذه المشاعر في مواجهة بعضها البعض.

تفضّل تالي الحرية لأنها تعيش بالفعل في قفص، رغم أنه ليس ذهبياً، إلا أنه أكثر راحة من منزل أبيجيل وداير البسيط. لكن زوجها حادّ الطباع فيني (كريستوفر أبوت)، الذي جُمعت أخلاقه من مقاطع إنجيلية يخطأ اقتباسها، يشكّ في خيانتها. عندما تفشل أيضاً في أداء "واجباتها الزوجية" وترفض أن يرزقا بطفل، تصل الأمور إلى ذروتها. من النافل هنا الحديث عن اتجاهات معينة في مواجهة مثل هذه الأفلام تحديداً، لكن "العالم الآتي" هو ثالث فيلم يدور حول قصة حب بين نساء يجول المهرجانات السينمائية ثم ينتظر ما يقرب عاماً كاملاً لإطلاقه في الصالات أو حتى في الإنترنت. يمكن وضعه في مكان - من حيث نبرته، وبحثه الجمالي، واقتراحه – بين فيلمي "بورتريه لامرأة تحترق" و"آمونيت"، حيث يختار مزيجاً مشغولاً من السرد الشعري لرواية قصة تقليدية تماماً.

في التعليق الصوتي الذي يوجّه التطور الدرامي للفيلم، الفائز بجائزة "الأسد المثلي" في مهرجان البندقية السينمائي الأخير، تتجلّى بوضوح رغبته في استيعاب النغمة الأدبية للقرن التاسع عشر. ليست روح الأخوات برونتي هي التي تسود الفيلم فحسب، بل يُلاحظ أيضاً وجود مؤلفين آخرين من تلك الفترة، مثل ماري شيلي وجين أوستن. كونهن جميعاً نقاط مرجعية مهمة لبناء التيارات النسوية اللاحقة (ربما يكون هذا هو "العالم الآتي" الذي يتحدث عنه العنوان)، فهذا أمر لا يمكن إغفاله. لكن في حين تتضح تماماً نية فاستفولد لوضع فيلمها في حوار مع السياق الحالي وما يتضمنه من صعود موجة نسوية غاضبة، يُحسب للمخرجة تمكّنها من الابتعاد عن أي ضربات واسعة أو خطاب زاعق. بدلاً من ذلك، اختارت التركيز على تشكيل المشاعر والعواطف المختلفة التي تمرّ عبر شخصياتها، ما يجعل من فيلمها خريطة صغيرة للعلاقات الإنسانية في أي زمان ومكان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها