الخميس 2021/08/19

آخر تحديث: 12:04 (بيروت)

"أولد" لنايت شيامالان.. معجزة الوقت وكابوسه

الخميس 2021/08/19
increase حجم الخط decrease

هناك طريقان للتعامل مع فيلم "أولد" للمخرج م. نايت شيامالان، وسيعتمد كلاهما على كيفية ارتباط المرء باقتراحه ومقاربته لموضوعه. الأكثر طموحاً هو التفكير فيه كانعكاس لمرور الوقت على البشر، فيلم صغير ومركّز - مثل جميع أفلام المخرج تقريباً - حيث تواجه سلسلة من الشخصيات أنباء مفاجئة بأن حياتهم ستستمر لفترة أقصر بكثير مما توقعوا، وفي أثناء ذلك يكتشفون بعض الأشياء عن أنفسهم وعلاقاتهم والعالم. والآخر هو رؤيته كشيء أكثر تفاهة وصخباً.. تنويع معاصرعلى أفلام الدرجة الثانية B-movies، حلقة طويلة من تلك المسلسلات التلفزيونية الفانتازية الموجهة للمراهقين، حيث تتمتع المجموعة نفسها من الشخصيات بالكثير من الغرابة وتحدث لهم الكثير من الأشياء على مدى يوم غريب جداً على شاطئ لا يقل غرابة.

إذا توقّعت الاحتمال الأول، فعلى الأغلب ستكون خيبة الأمل من نصيبك. فالمخرج أبعد ما يكون عن اصطحاب المشاهد إلى مناطق القلق الوجودي التي جعلته مشهوراً في أفلامه السابقة، من "الحاسة السادسة" إلى "إشارات". ليس الأمر أنه لم يحاول، فمنطق الحبكة يفرض هذا النوع من التفكير، بل بالأحرى لفشل محاولته، ربما لأنه اختار نصّاً مليئاً بانقلابات وفخاخ ومشكلات صغيرة يجب حلّها بحيث لم يعد لدى الفيلم إلا القليل ليقدّمه من الناحية الفلسفية، إذا أردت. فـ"أولد" ليس "صِبا" ريتشارد لينكلاتر - فقط للاستشهاد بفيلم يجعل الوقت نفسه موضوعه - وأي شخص يريد استخراج شيء كهذا منه، سيفعل ذلك بدافع رغبته وإرادته الذاتية أكثر من استناده إلى أدلة سينمائية يمكن الوثوق فيها أو الرجوع إليها.

مَن سيميل إلى التوقّع الثاني، من ناحية أخرى، سيجد شيئاً أكثر إمتاعاً. بساطة، ربما، وخِفّة تتاخم حدود سخف الحالة الإنسانية التي لطالما غازلتها بعض أفلام شيامالان، لكنها ممتعة إذا اعتبرها المرء تقليداً لبعض أفلام الخيال العلمي التشويقية منخفضة الميزانية من خمسينيات القرن الماضي، ويستكملها حوار توضيحي شارح وأداءات تمثيلية لافتة بقدر غرابتها. أو، لاستخدام مرجع من هذا القرن، تقليد متأخر للفصول الأولى من مسلسل "Lost" - تلك التي يسود فيها الغموض بدلاً من الفوضى التي تلت ذلك - مع جرعات أكبر من الخيال والأمزجة.

وستكون قادراً أيضًا على ملاحظة بعض المسائل المتعلقة بالـ"ميزانسين"، وعمل الكاميرا وحركتها، الصورة والصوت اللذان يملكان الخصائص المميزة لبصمة المخرج.

يبدأ الفيلم بمجموعة من الشخصيات التي تصل إلى فندق فخم على شاطئ فردوسي، ويركّز بشكل خاص على عائلة تعاني من بعض المشاكل، وتتألف من غاي (غايل غارسيا برنال)، وهو خبير اكتواري يواصل حساب الاحتمالات والمخاطر لكل شيء؛ زوجته بريسكا (فيكي كريبس)، أمينة متحف بلكنة أوروبية؛ وطفليهما ترينت (نولان ريفر) ومادوكس (أليكسا سوينتون). في صباح اليوم التالي، يوصي مدير الفندق بنزهة عائلية مثالية: شاطئ بعيد وجميل، رمال بيضاء ومياه صافية وشعاب مرجانية، حيث يمكنهم قضاء اليوم. يقبلون دون تردد، بلا أن يدركوا كونهم شخصيات في فيلم لشيامالان، حتى لو كان المخرج نفسه يقوم بدور السائق الذي يقودهم إلى وجهتهم بنظرة تعلو وجهه تقول "هؤلاء السذّج لا يعرفون ما هم مقبلون عليه".

ليسوا الوحيدين الذين يسافرون إلى الشاطئ الخفي، حيث تنضم إليهم شخصيات قابلناها بالفعل في الفندق. تتكون المجموعة الأولى من طبيب متغطرس يدعى تشارلز (روفوس سيويل)، وزوجته الشابة كريستال (آبي لي)، المهووسة بالجمال واللياقة البدنية؛ الجدة أغنيس (كاثلين شالفانت) وابنتهما الصغيرة كارا (مياكا فيشر). ثم يأتي زوجان آخران، جارين (كين ليونغ)، وهو ممرض، وباتريشيا (نيكي أموكا بيرد)، طبيبة نفسية تعاني من نوبات صرع. وهناك سيلتقون بمغني راب شهير يطلق على نفسه اسم "سيدان متوسطة الحجم" (آرون بيير)، منعزل ولا تبدو عليه الرغبة في التسكع مع الآخرين. رفيقة المغني امرأة تذهب للسباحة ولا تعود أبداً. أو هي تفعل ذلك، ولكن بفضل المدّ ووجهها العائم لأسفل. بعد فترة وجيزة، لم يعد الأطفال أطفالاً بل في سن ما قبل المراهقة. وبعد ذلك، يصيرون شباباً. الجرح الذي يلتئم على الفور وظهور أمراض جسدية مفاجئة يثبت صحة ما افترضت المجموعة استحالته: كل نصف ساعة لى الشاطئ تعادل سنة من العمر. يزداد الأمر سوءاً عندما يجدون أنفسهم محاصرين ومراقبين من أعلى من قِبل السائق/ المخرج/ المتحكم، وهي فكرة يجب على شيامالان تجربتها في العلاج.

يكشف الفيلم هيكله منذ البداية، وبدلاً من انتظار إظهار الطريقة الغريبة التي يمرّ بها الوقت على الجزيرة من تلقاء نفسها، يُلقي في وجه الشخصيات (والمشاهدين) جثة، يليها محاولات تسويات الفوضى، ثم مراكمة المواقف الغريبة المتوالدة بفعل الوقت المتسارع. هناك العديد من المواقف بحيث لا يسأل أحد عن سبب حدوث ما يحدث، ولا ينظر أي شخص إلى الوراء لوضع الماضي في نصابه، وبالتالي إغلاق أي إمكانية للتفكير في الوقت. يهتم شيامالان بالمفهوم، "ماذا سيحدث إذا وضعنا الناس في جزيرة يكبرون فيها بسرعة؟". كيفية تحويل الحكاية الجيدة إلى فيلم جيد، مسألة أخرى تماماً.

سيحاول شيامالان الإجابة على الأسئلة التي قد يسألها أي شخص في مثل هذه الحالة: ما الذي يحدث بحق الجحيم في تلك الجزيرة؟ لماذا ؟ كيف تخرج من هناك؟ كيف تتجنب الموت أثناء محاولتك الخروج؟ لماذا اختيروا هم بالذات للذهاب إلى هناك؟ مشغول بكل هذه القضايا - وكيفية تثميرها بشكل درامي - يفشل الفيلم في تطوير ما قد يكون الأهم من هذا كله: ماذا تفعل بالوقت الضئيل المتبقي لهم؟ الفيلم، المستند إلى رواية مصورة، والمصوّر في خضم الوباء، تعطي حبكته مساحة كبيرة للعب مع مثل هذه الأسئلة، وهو ما فعله المخرج في الأيام التي تمكنت فيها أفلامه من أن تكون على حد سواء مريحة ومروّعة، غامضة دون هرولة للشرح. هنا، ربما حتى لا يزيد من قلق مشاهديه من ساكني العالم الحقيقي والمبتلين بالوباء والموت الطارئ واليومي، يفضّل ترك الموضوع بأكمله - تقريباً - جانباً.

ما يتبقّى هو فيلم ترفيهي لكن فوضوي نسبياً مدته 108 دقائق تحدث فيه العشرات من الأشياء، واحد تلو الآخر، كما لو كان الشاطئ منزلاً يتعثرون فيه طوال الوقت بأنبوب مكسور جديد، تسرّب غاز آخر، انقطاع التيار مرة أخرى. هناك مفاجآت وكشوفات (بعضها غريب جداً) مرتبطة بمرور الوقت المتسارع، ولكن نادراً ما يكون هناك أي إحساس بالألم أو الخسارة أو الدراما. الجميع مشغول حتى أذنيه بحلّ كل مشكلة جديدة تنشأ لدرجة لا تعطيهم الفرصة للحزن على فقيد راحل أو الدخول في أزمة وجودية. ما ينشده الفيلم هو الإخافة والتشويق، الإرعاب والإضحاك ​​(وكلاهما معاً، عن قصد أو بدونه)، والأمل الخائب - نظرًا لأن الأمر برمته يصبح بحثاً منفرداً عن النجاة الشخصية – أن يُعمل السيناريو سحره ويجعل الأمور أكثر وضوحاً قليلاً.

تسمح لنا الروح الفوضوية للفيلم بتقدير بعض التصاميم المرئية للمخرج، لنرى كيف تمكّن من حلّ مشكلات مثل مرور الوقت، لتقديم ممثلين آخرين، والتعامل مع بعض الرعب - أو المؤثرات الخاصة السيئة - الذي لا يستطيع إظهاره ويتجنّبه من خلال التعتيم (هناك لقطة طويلة غريبة وذكية بشكل خاص)، وإزاحة الحدث خارج الإطار، وحركة الكاميرا الغريبة؛ وفي موقف معيّن، يكون الصوت هو المرجع الوحيد تقريباً.

شيامالان مخرج منغمس في ذاته، واحد من هؤلاء الذين يعتقدون أن كل أفكارهم رائعة. فنان يحبّ نفسه، وهنا لا جديد تحت الشمس. آثار أسلوبه (المناخات المتخلَّلة، الحبكة المكونة من تفاصيل قد تُحلّ أو تترك لخيال الجمهور، والشخصيات التي تواجه مواقف خارقة للطبيعة دون تفسير، والتحرير الدقيق والعمل الصوتي، والانقلاب النهائي) تأتي بكامل زخارفها. اللافت هو عدم قدرته على ضبط نبرته مع ما يرويه، فبنزول التترات الختامية يطفو سؤال عن كيف يمكن أن تكون الأشياء مختلفة إذا، بدلاً من الجدية والحذر، روى هذه القصة المجنونة بطريقة أكثر استرخاءً وأقل رسمية مما فعل. سحر أفلامه الجيدة السابقة غير موجود، ولكن كتدريب في الأسلوب، ذلك النوع الذي يتطلَّب تواطؤاً بين المخرج والمتفرج، فهو مثالي. لا أكثر ولا أقل.


(*) يُعرض حالياً في القاهرة وغيرها من المدن عبر العالم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها