الأربعاء 2021/08/18

آخر تحديث: 09:46 (بيروت)

رقاد العذراء مريم وانتقالها إلى السماء

الأربعاء 2021/08/18
increase حجم الخط decrease

 

يوم الأحد الفائت، احتفل العالم المسيحي بـ"عيد السيدة"، وسال في هذه المناسبة طوفان من الروايات الخاصة بهذا العيد على صفحات التواصل الاجتماعي. يُعرف هذا العيد باسم "رقاد السيدة" في العالم الأرثوذكسي، وبـ"انتقال العذراء" في العالم الكاثوليكي، وهو آخر الأعياد الكبيرة في السنة الطقسية التي تنتهي في 31 آب. 


لا نجد في كتب الإنجيل أي إشارة إلى وفاة العذراء وانتقالها، كما لا نجد أي ذكر لهذا الخبر في أقدم ما يُعرف بالأناجيل المنحولة، وهي الأناجيل التي لم تعترف بها الكنيسة ولم ترفعها إلى مصاف الكتب المقدسة. تبقى أصول هذا العيد غامضة بحسب أهل الاختصاص، وأغلب الظن أن هذا الاحتفال الذي كرّسته الكنيسة، يعتمد على تراث شفوي حفظته كتابات منحولة أهمها نص يعود إلى المرحلة الممتدة من القرن الرابع إلى القرن السادس، يعرف بعنوان "رقاد مريم للمزعوم يوحنا"، وقد وصلنا بلغات عديدة، والأرجح ان اليونانية هي لغته الأصلية.

شاعت هذه الكتابات، وتردد صداها في القرن الثامن في عظات وضعها عدد من كبار القديسين، وأشهرها ثلاث عظات كتبها القديس يوحنا الدمشقي في النصف الأول من القرن الثامن. تردّد صدى هذه الكتابات في الصلوات والتسابيح الطقسية التي تبرز العناصر الأساسية للعيد، وتعبّر عن دلالاتها ومعانيها العميقة: ذاقت السيدة الموت، ورقدت، وأودعت القبر، "لكن بما أنها أمّ الحياة، نقلها إلى الحياة الذي حلّ في مستودعها الدائم البتولية"، أي المسيح. ونجد سيرة مختصرة لما تسلّمته الكنيسة من الأخبار المتداولة عن هذا الحدث في "كتاب السواعي الكبير"، وهو من الكتب الطقسية المعتمدة بشكل أساسي في الكنيسة البيزنطية.

بحسب هذه السيرة، لمّا حان الزمن الذي سُرّ فيه المسيح أن ينقل إليه والدته، "أرسل إليها ملاكاً قبل ذلك بثلاثة أيام ليخبرها بقرب انتقالها من هذه الحياة الزائلة إلى الحياة الأبدية المغبوطة. فلمّا سمعت هي بذلك صعدت بسرعة إلى جبل الزيتون الذي كانت تذهب إليه كثيراً للصلاة، وأدّت الشكر لله، ثم عادت راجعةً إلى بيتها. وأخذت تهيّئ ما يقتضي للدفن". كان رسل المسيح موزّعين في أنحاء الأرض حاملين بشارة الإنجيل، فاختطفتهم سحبٌ من أقاصي الأرض، "كلّاً منهم من حيث كان يكرز بالبشارة"، وحملتهم بغتة إلى السيدة العذراء، فنقلت إليهم خبر رحيلها الآتي، ثم رفعت يديها، وابتهلت من أجل سلامة العالم، وباركتهم. واضطجعت بعدها على سريرها، وأسلمت روحها بين يدي ابنها الذين نزل من السماء لهذه الغاية.

رفع الرسل الجثمان، وساروا به إلى القبر برفقة الملائكة التي كانت "اذ ذاك ترتّل معهم من السماء". "وإذ تجاسرَ أحدُ اليهود حسداً أن يمدّ يديه على ذلك السرير بوقاحةٍ، نالهُ في الحال من لدنِ القضاء الإلهي ما كانت تستوجبه وقاحته من القصاص، فإن يديه الجريئتين قطعتا بضربةٍ لم تُرَ. ولمّا وصلوا إلى القرية التي تُدعى الجسمانية، دفنوا هناك ذلك الجسد الفائق الطهارة، ينبوع الحياة، بوقارٍ عظيم. وفي اليوم الثالثِ من دفنها اجتمعوا لتعزية بعضهم بعضا". وبينما كانوا يشتركون في الصلاة كما جرت العادة، ظهرت السيدة في الهواء أمام أعينهم، وألقت عليهم السلام، فأيقنوا أنها "انتقلت إلى السماء بالجسد".


الصور الفنية وتطورها

اعتُمد عيد رقاد السيدة منذ القرن الثامن في سائر العالم المسيحي، لكن هذا العيد لم يجد ترجمته الفنية إلا في مرحلة متأخرة كما يبدو، إذ إن أقدم ما وصلنا من الصور التي تمثله يعود إلى القرن الحادي عشر. في القرن الثاني عشر، ظهر التأليف التشكيلي الخاص بهذا العيد وتحوّل إلى نموذج ثابت شاع في سائر أنحاء العالم المسيحي شرقاً وغرباً. وسط الصورة، يظهر المسيح ضمن هالة بيضويّة كبيرة تلفّ قامته، حاملاً طفلاً صغيراً ملفوفاً بالبياض، يرمز إلى روح أمه. في المقابل، تظهر السيّدة مسجّاة على سرير عريض، ملقية برأسها فوق وسادة وكأنّها نائمة، وتلفّ وجهها حالة من السلام والسكينة. يقف القديسون الرسل عن يمين النعش ويساره، فيشكلون مسافتين تتألف كل منهما في مجموعة من الرؤوس المتوازية. يصطفّ الملائكة حول السيد، ويشكّلون جوقة أخرى تشارك في هذا التسبيح.

في مصر، نقع على جدارية تمثّل هذا النموذج في كنيسة السيدة التابعة لدير السريان في وادي النطرون. ونجد في لبنان نموذجا آخر لهذا التأليف في جدارية كبيرة محفوظة في كنيسة مار شربل الرهاوي في معاد، نواحي عمشيت في قضاء جبيل. في هذه الجدارية التي تتميز بحجمها الكبير، تتمدّد العذراء على نعش أبيض فوق تابوت يكسوه قماش أرجواني مرصّع بالأحجار الكريمة. على فراش الموت، تتوشح السيدة بالسكينة التامة، وترقد بسلام في وقار وبهاء. في صدر التأليف، يقف المسيح حاملا بين يديه طفلة مدثرة بالبياض ترمز إلى نفس العذراء، وفقا للتقليد المتبع. يحيط بهامة المسيح في القسم الأعلى من التأليف ملاكان يتحضران لاستقبال روح مريم، بينما يقف على جهتيه شابان أمردان يرتديان ثوبا أبيض، ويحمل كل منهما شمعة كبيرة، مما يعني أنها شماسان يقومان بالخدمة الجنائزية.

يجتمع الرسل حول النعش بعد أن وفدوا بأمر الله على السحب من أقاصي الأرض. يقف أمام القبر يوحنا وبطرس، ويتوزع الباقون على جانبي المسيح. سُطّرت الأسماء بالسريانية فوق الهالات العسلية، وبعضها لا يزال مقروءا، ومنها: توما، برتلماوس، فيليبوس، يعقوب، لوقا، أندراوس، مرقص ومتى. سلمت كل الوجوه من الدمار باستثناء وجهي بولس وسمعان اللذين ضاع أثرهما تماما. يرافق جمع الرسل أسقف تصعب قراءة اسمه المدون بالسريانية، وهو على الأرجح ديونيسيوس الأريوباغي، أسقف أثينا، أحد الرسل السبعين، وقد استحق أن يكون مع الرسل في لقائهم الأخير مع العذراء، فنُقل مثلهم بشكل عجائبي على سحابة حملته من أثينا إلى القدس. في الطرف الآخر من الصورة، وإلى يسار مشهد الرقاد، يظهر قديس آخر تحت قوس مزخرف يقوم على عمودين متوجين، وهو بحسب الكتابة اليونانيّة المسطّرة على الهالة يعقوب أسقف أورشليم، وحضوره مع ديونيسوس يُعتبر من العناصر التقليدية في مشهد رقاد السيدة.

في القسم الأسفل من الجدارية، نرى ملاكا يقطع يدي رجل يتقدم في اتجاه نعش السيدة، وهو اليهودي الذي أراد أن يسيء إلى الجماعة المسيحية الأولى بتعطيل دفن السيدة، فاقترب من نعشها محاولا قلبه، فردعه رئيس الملائكة ميخائيل. يتكرر هذا المشهد في الصور الخاصة برقاد السيدة منذ القرن الثالث عشر، وينقل الرواية التي ترد في "رقاد مريم للمزعوم يوحنا"، كما في عظة يوحنا الدمشقي الثانية في رقاد السيدة. خلف اليهودي الجاحد، نرى رجلاً ملتحياً ينحني رافعاً يديه في حالة تعبّد، مما يعني أنه من الواهبين الذين قاموا برعاية تزيين هذه القاعة، غير أن غياب اسمه عن الرسم يُبقي هويته مجهولة.  


بين الشرق والغرب

تتبنى جدارية كنيسة معاد تأليفاً تقليدياً ثابتاً اعتمد بشكل واسع في القرن الثالث عشر. تطوّر هذا التأليف في مرحلة لاحقة، وحوى مشهد انتقال العذراء إلى السماء. احتل هذا المشهد وسط القسم الأعلى من التأليف المعهود، وبات من العناصر الثابتة في صور رقاد السيدة منذ القرن الرابع عشر. خرج الغرب الكاثوليكي عن هذا التقليد تدريجياً في القرون التالية، فغيّب مشهد الرقاد التقليدي بشكل كامل، وارتكز على مشهد انتقال العذراء إلى السماء في تأليف يحاكي تأليف مشهد صعود المسيح إلى السماء.

تبنت الكنائس الشرقية قصة رقاد السيدة وانتقالها إلى السماء، غير أنها لم ترفعها إلى مصاف العقيدة. توفيت العذراء، ورقدت كسائر البشر، كما يُقال في التسبيحة البيزنطية: "أيتها النقية، بما أنّك برزت من صلب مائت، فقد قضيت بحسب سنّة الطبيعة". دفن جثمان السيدة في قبر، ولبث التلاميذ أمام هذا القبر ثلاثة أيام، وكانوا يصلون وهم يسمعون ترتيل الأناشيد. وبعد أن صعدت بالنفس، صعدت السيدة بالجسد إلى السماء.

في الغرب، رفعت الكنيسة الكاثوليكية حدث انتقال العذراء إلى مصاف العقيدة في 1950، وذلك بعد أن تبنت عقيدة "الحبل بلا دنس" في 1845، وتعني هذه العقيدة أن العذراء لم ترث الخطيئة الأصلية التي يموت الإنسان بسببها منذ آدم، وعند رحيلها عن هذا العالم، انتقلت مباشرة إلى السماء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها