الثلاثاء 2021/08/17

آخر تحديث: 11:39 (بيروت)

تفوّق أجنبي في ملتقى "الخط العربي"في القاهرة

الثلاثاء 2021/08/17
increase حجم الخط decrease

كمّيًّا، فإن "ملتقى القاهرة الدولي لفن الخط العربي" يعد واحدًا من أضخم الكرنفالات العربية والعالمية المعنيّة بفنون الخط العربي، وذلك باتسّاعه في دورته السادسة (صيف 2021) ليشتمل أعمال 153 فنانًا من 18 دولة عربية وأجنبية، وبمضاعفة قيمة جوائزه المالية في سائر فروع المسابقة (التيار الأصيل، الزخرفة، الاتجاهات الخطية الحديثة) اعتبارًا من الدورة المقبلة بقرار من وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم، الأمر الذي دفع نقيب الخطاطين المصريين خضير البورسعيدي إلى وصف أحدث دورات الملتقى بأنها "مباركة"، لتحقيقها أحلام المشاركين، وتحفيزها لهم على المزيد من الإبداع والتقدم.

كيفيًّا، فإن الدورة السادسة للملتقى قد مضت قدر جهدها وطاقتها، ووفق حدود استيعابها وسقف تصوراتها، في المسارات المتنوعة الساعية إلى إنجاز أهداف معلنة  تتزين بشعار الملتقى "علّم بالقلم"، وتندرج تحت مظلة العموميات والكليشيهات، من قبيل: ترسيخ جماليات الفن العريق والإسهام في تطويره، وتكريم روّاد الخط العربي والاحتفاء بهم، وإثراء العمل البحثي والأكاديمي حول علوم الخط العربي ومذاهبه من خلال الندوات وورش العمل التخصصية، وتنمية الذائقة الفنية لدى المتلقي، وربط الأجيال الجديدة بتراثها الفني، والإسهام في بناء الصورة الحضارية للفنون العربية والإسلامية، وتحويل الخطوط العربية المختلفة إلى سيمفونيات مرئية تنافس لوحات الفن العالمي.

"ملتقى القاهرة الدولي لفن الخط العربي"، الذي ينظمه قطاع صندوق التنمية الثقافية (التابع لوزارة الثقافة المصرية)، بالتعاون مع الجمعية المصرية للخط العربي، وقطاع الفنون التشكيلية، وقطاع العلاقات الثقافية الخارجية، ودار الأوبرا المصرية، شأنه شأن الكثير من المؤتمرات والمهرجانات والفعاليات التي تنهض بها المؤسسة الثقافية الرسمية بمصر، ينبني هيكليًّا وإداريًّا ودعائيًّا على الحشد والتكريس للعناوين، ومدّ المجال لحضور مئات الأسماء من هنا وهناك، في حين يقل الاعتناء بحساسية التأثير، وقياس الإضافات النوعية التي تتحقق من خلال الإسهامات التراكمية المتكررة.

يحفل مانفستو الملتقى بالفخامة والتدبيج، فهو ينعقد "انطلاقًا من دور مصر المؤسس في بنية الحضارة الإنسـانية المبكرة، وتأكيدًا عـلى أن مصر دولة عظمى ثقافيًّا، وأن الثقافة المصرية كانت وستظل دائمًا هي قاطرة التقدم والرقي في مختلف مجالات المعارف والفنون"، ومن ثم فإن إطلاق هذا الملتقى ضرورة، فالخط العربي "في مقدمة الفنون الراسخة، وأحد أهم مكونات الهوية العربية والإسلامية الأصيلة، القادرة على التواصل مع الآخر، وإحداث الأثر الإيجابي لتقديم رؤية ثقافية جديدة، ذات مضمون ثقافي قادر على إثراء مرحلة ما بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو بزخم ثقافي وفني نابع من تراثنا وحضارتنا العريقة، بحيث يفتح حوارًا تفاعليًّا بناء مع الثقافات الأخرى، ليؤكد أننا ونحن نتطلع للحاق بأسباب العصر الحديث بزخمه العلمي والتقني مستشرفين آفاق المسقبل، فإننا فى الوقت ذاته نتمسك بكل تراثنا العربي الأصيل".

ولعل عناوين الأوراق البحثية التي جرت مناقشتها في الندوة العلمية للملتقى السادس تحيل إلى ذلك التنميط الإداري والاشتغال الجاهز، ومن بينها: جماليات الخط العربي، مشكلات تعليم الخط العربي، أهمية تدريس الخط العربي، تقنيات الخط الكوفي التربيعي، تاريخ إحياء الخطوط المملوكية، ظاهرة الكتابة الجدرانية؛ نشأتها وأبرز أشكالها.


وبالنظر إلى أعمال أغلبية الفنانين المصريين والعرب المشاركين في الملتقى القاهري، يتبدى أنها تعكس تلك الشكلانية المهيمنة على أروقته التخطيطية والتنظيمية، فمن أبرز مفارقات الدورة السادسة أن لوحات الفنانين الأجانب، الذين لا يعرفون العربية، هي الأكثر احتفاء بالتكوينات الجمالية للحروف، وخصوصيتها التشكيلية المجردة، المعبّرة عن جوهر الرسم، خارج القاموس اللغوي، فيما أن معظم الخطاطين المصريين والعرب قد التصقوا أكثر بمعاني الحروف المباشرة، وتصاويرها الزخرفية الهشة، ومدارسها التقليدية المحافظة، فكأنهم يدورون في حلقات السائد والمألوف والمتوقع، حتى في إطار الانزياحات التي لم تقدر على تجاوز الاعتيادية. كما أن الهوس بالتقنية والتطبيقات الرقمية لدى البعض قد راح ينتقص من حرارة الكتابات اليدوية، وتلقائيتها المدهشة.

شارك في الملتقى، المُهدى إلى الخطاط المصري يوسف أحمد (1869-1942)، باعث الخط الكوفي في العصر الحديث، فنانون من 11 دولة عربية، هي: مصر، والسعودية، والإمارات، والعراق، والأردن، ولبنان، والمغرب، والجزائر، وتونس، وسوريا، واليمن، و7 دول أجنبية، هي: بولندا، والصين، وإيطاليا، وإندونيسيا، والمملكة المتحدة، وماليزيا، وتنزانيا. وضمت قائمة المكرمين كلاً من: إبراهيم أبو طوق (الأردن)، وفاطمة البقالي (الإمارات)، وأحمد المصري ومصطفي العمري (مصر)، وغيرهم، وشملت قائمة ضيوف الشرف كلاً من: محمد سحنون (تونس)، ومصطفى النجار (سوريا)، وسعيد عبدالقادر (مصر)، وثائر الأطرقجي وجاسم حميد (العراق)، وآخرين. وجاءت الندوة العلمية تحت عنوان "الحرف العربي.. تحديات ورؤى"، وانعقدت مجموعة من الورش الفنية، إلى جانب عرض أفلام وثائقية، وتنظيم معرض فني.

التقت أعمال الفنانين المصريين والعرب، حتى لوحات أعضاء اللجنة العليا للملتقى، ولجنة الفرز والاختيار، واللجنة العلمية، تحت مظلة الاشتغال على الحرف، ككتابة خطية، وهندسة زخرفية، بوصف الحرف وسيلة توصيلية دلالية في الأساس، إلى جانب قيمته التشكيلية بحد ذاته، وركزت هذه الأعمال على التكوينات التراثية وثيقة الصلة بفنون العمارة الإسلامية، وكتابات النصوص الدينية، وهي اتجاهات راسخة في مسيرة فن الخط العربي منذ تاريخه المبكر.

في المقابل، فإن الفنانين غير المصريين والعرب، ومنهم: البولندية إيزابيلا أوخمان، والصيني عبد القيوم ماجيان، والإيطالية أنتونيلا ليوني، والماليزيان خويلة بنت حارث، وربيعة الأربعية، والإندونيسيون محمد شريف الدين صديق، ومحمد أطهر عفيف، وألفيانتو رمضان، قد جاءت أعمالهم محتفية بالبصريّات المطلقة، معلية شأن الفن المجرّد، والقيمة الجمالية الكامنة في نبض الحرف وموسيقاه الداخلية وطاقته المتوهجة، الأمر الذي يحرر الحروف العربية من قاموسيتها الضيقة، ويوسّع آفاق قدراتها التعبيرية والترميزية خارج الحدود المتعارف عليها، وفي هذا الاتجاه تطوير فعلي لفنون الخط العربي، وإن كانت الرؤية والتنفيذ بعيون وأيدٍ أجنبية.

في هذا السياق، قدّمت البولندية إيزابيلا أوخمان، على سبيل المثال، لوحتها المتضمنة عبارة نجيب محفوظ "الخوف لا يمنع الموت، لكنه يمنع الحياة" في تكوين تجريدي تطل منه العبارة على فضاءات تخييلية لامتناهية. وبدوره قدّم الصيني عبد القيوم ماجيان تصوراته حول كلمة "المنّان"، بخلق مساحات تشكيلية تعبيرية، تتدفق فيها إيقاعات الكلمة ونغماتها الحروفية، بحيث ينطوي كل حرف بحد ذاته على علامات إيحائية مكتملة. ووسّعت الإيطالية أنتونيلا ليوني معطيات النص الحروفي بدمجه في نسيج عناصر تشكيلية أخرى ومنظومة من الصور والكائنات والألوان.

تمكن الفنانون الأجانب ببراعة من قراءة الحرف العربي كحالة نادرة من حالات الفنون البصرية المعاصرة، وهي تلك الحالة التي لم يغفلها مانفستو ملتقى القاهرة الدولي لفن الخط العربي، في حقيقة الأمر، وإن سقطت من حسبان أغلبية الفنانين المصريين والعرب. وعند تلك النقطة المتفوقة، التي ألمح إليها منظمو الملتقى بإيجاز، يجنح المبدع إلى التجريد، ويقيم علاقات تشكيلية متفردة "تأخذ في اعتبارها سمو الحرف العربي وشموخه، وقدرته على المد والبسط، والاستدارة والاستطالة، والتضاغط والتخلخل، وتراعي كتلة الحرف المصمتة، المشحونة بالحركة، والفراغ المحيط بها، والتنوعات المدهشة بين الظل والنور، والخط واللون، في تناغم موسيقي صوفي حالم، يتراوح بين الرهافة والرخاوة، والغلاظة والقوة". تلك هي كلمة السر، التي فطنها بامتياز الفنانون الأجانب الذين شاركوا في ملتقى الخط العربي في القاهرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها