الخميس 2021/08/12

آخر تحديث: 13:18 (بيروت)

بدويتان حداثيتان: لينا هويان الحسن وميرال الطحاوي

الخميس 2021/08/12
increase حجم الخط decrease
ارتبطت الصحراء، بوجهيها كمكان واقعي وكمحمول ثقافي، بالرجل. تكاد الصحراء والرجولة أن تكونا مفردتين متشابكتين لا يفرط عراهما. يستمد الرجل الصحراوي، أو البدوي، قوته من تآلفه مع ومن ثم تشبثه بالصحراء، ولكن كذلك من صراعه الأبدي معها، لترويضها، حتى صار هو والصحراء، أو البداوة، صنوين لا يفترقان. يزخر الشعر العربي بمقولات مطولة في هذا الشأن.

مدهش والحال هذا أن تنهض بعبء الإتيان بالبادية إلى المتن الروائي العربي امرأتان. غير أن المرأتين اللتين نتحدث عنهما طافحتان بالرقة وبعيدتين كل البعد عن الشدة والقساوة وشظف العيش، أي ما تتسم به حياة الصحراء وسبل العيش فيها.

تقيمان في مكانين مختلفين، أي لكل واحدة باديتها الخاصة كما أن لكل واحدة رؤية خاصة في الحياة ومقاربة فريدة في العيش ومقاربة استثنائية في الكتابة.
ميرال الطحاوي ولينا حسن الهويان. مصر والشام.
روائيتان تكتبان عن الصحراء بشغف. تسبران غورها وتحفران في طبقاتها وتزيحان الستار عن أسرارها وتسردان تاريخها وترسمان جغرافيتها. تصفان أحوال العيش في البادية وترويان سيرة ناسها وأهلها في لياليها الطويلة. كل واحدة منهما شهرزاد باديتها، تحكيان في ألف ليلة وليلة عن أسرار الصحراء وأساطيرها وتملآن ليالي القراء بأخبار فرسانها وعشاقها ونوازعهم وخباياهم ومصائرهم وأقدارهم.

تحضر الصحراء في الرواية، أو الروايات، التي تكتبها ميرال الطحاوي ولينا هويان الحسن كبقعة أرض شاسعة، معزولة مثل جزيرة مسحورة، يتيه الداخل إليها وقد يضيع، وتكشفان النقاب عن الإنسان الصحراوي، أو البدوي، في قيامه وقعوده وأهوائه وشروده ونواميسه وأخلاقه وماضيه وتراثه وحروبه التي لا تنتهي.

تنحت الكاتبتان في صخور البادية وتكشطانها لتنزعا عنها غبار السنين، ذلك الغبار الذي خلفه ورسخه الرجل. تسعيان للكشف عن الوجه الآخر، المخبوء في الطبقات العميقة: وجه المرأة. وجه موشوم بالنقوش وعيون متخنة بالفتنة.

كانت بادية الرجل، ولم تزل، ميدان حروب وغزوات وخطف وسفك دماء، أما بادية المرأة فإنها خيمة، خباء، أغاني وترانيم وهمسات وحسرات وآهات وقلائد وخلاخيل وأمشاط عاج ومكاحل (تعمد الكاتبتان إلى ترصيع نصوصهما بأغان وأقاويل ومرثيات بدوية). الطارد والطريدة والقاتل والقتيلة والجاني والضحية. يرفع البدوي خنجره وينزل به ليغرزه في صدر المرأة (أكانت عشيقته أم زوجته) ويخضب وجه الصحراء بالدم. لكن هذا جانب واحد من جوانب الزمن الصحراوي.

وهناك جانب آخر. تعمل الكاتبتان الحفر في طبقات الأوديسة الصحراوية، أو البدوية، لنوع العتمة عن ذلك. في قمة ذلك، مثلاً، أن المرأة ليست طريدة مجروحة بل هي لا تقل بأساً عن الرجل في المطاردة والإثخان. هي الطرف الآخر في العيش الصحراوي، من دونها لا يمكن الإستمرار. القيم التي نبتت في تربة البادية جمعت الطرفين معاً وشدتهما إلى بعض. هما طرفان متكاملان وليسا نقيضين. يدور الرجل حول المرأة، مشدوداً إليها، مسحوراً بأنوثتها، مفتوناً بجاذبيتها، فيعمد، من أجل لفت انتباهها إلى إظهار صلابته وقوته وعنفوانه، تماماً مثلما يفعل أي ذكر في الحيز الصحرواي: الفرس والأيل والوشق والذئب والغزال. وإذ تستجيب المرأة لنداء الرجولة فإنها، من جانبها، تبث الأنوثة في شرايين الرجل.

في "سلطانات الرمل"، الرجال الذين تسرد لينا هويان الحسن حكاياتهم يظهرون على مسرح الحدث خشنين، جلفين، لكنهم سرعان ما يترققون وتتدافع في أعماقهم دفقات عطف وحنان ورأفة. نرى منهم شعراء رقيقين، ومغنين ينشدون لواعج أفئدتهم. طراد، أحد أبطال الرواية، صوته جميل، وهو يغني ويلقي على الأسماع قصائد الشعر. ركب الفرس مرتين ولم يعد إلى فعل ذلك ثانية. وصفه أبوه بالجبان لأنه يكره الدم ويشمئز من ذبح الحيوانات. وفي "الخباء"، رواية ميرال الطحاوي، لا نكاد نعثر على أي حضور لسيد الربعة البدوية. النساء يملأن الفضاء بحضورهن، أي أن المكان طافح بأنفاسهن وعواطفهن وهواجسهن الأنثوية. المكان، بهذا المعنى، بقعة للأنوثة لأن الرجل ينسحب فتنحسر الفظاظة لتحل محلها روح التسامح.

يمكن القول إن الكاتبتين تسعيان في تأنيث الصحراء، أو البادية، ليس فقط بإعادة المعنى إلى الإسم (الصحراء والبادية مؤنثتان) بل بإزاحة الرجل من سدة الرئاسة في تقرير المصير البدوي. تجري عملية تفتيت للبطريركية الذكورية (قتل السيد البدوي، على غرار قتل الأب الفرويدي)، وإحلال تعددية الأصوات محل الصوت الواحد.
هناك حشد هائل من الأصوات النسائية التي تدير دفة الحوداث.
في الخباء: فوز، ريحانة، سردوب، موحة، مهرية، زهوة، صافية…الخ.
في سلطانات الرمل: حمرا، مراية، منوى، سكرى، عنقا، قطنة…الخ.
حضورهن ليس مقيداً للرجل. بل يمكن الزعم بأن العكس هو ما يحدث: هن يقررن مصائر الرجال ويحددن نهاية الحكايات. إنهن، هن، حارسات حدود العيش البدوي، فيما الرجل غارق في أهوائه التي تأخذه، في أحيان كثيرة، إلى بقاع بعيدة قد يلقى حتفه فيها. كثيراً ما يغيب الرجل ويتأخر في الرجوع أو لا يرجع أبداً.

"هل عاد؟"، تسأل النساء بعضهن عن السيد الحاضر، الغائب في "الخباء"، فيما الجدة هي الآمر الناهي: "يفتحون لمقدمها الباب الكبير ويقف الجميع بانتظارها، هي الملتفعة بتلافيع الرجال، تنخر فرسها الضخمة". وحمرا، في "سلطانات الرمل": "كانت رشيقة كغزالة، متنبهة كثعلبة وشريرة كعفريتة وفخورة كملكة". يغيب الرجل عن المشهد جزئياً، أو بالكامل، فإن جاء يحضر كطيف عابر أو ككائن لا مرئي، غير مروض، يتعطش لممارسة طقوس العيش البدائي من بطش وطيش وهدر عبثي للدماء ومطاردات سقيمة تنتهي، كلها، بموته قتلاً وغيلة. كان الرجل هو السارد الساكن في البرج العالي، الذي استحوذ طويلاً على المتن في الحكاية البدوية. كان هو الراوي والمروي عنه في آن معاً. صوته هو المسموع وسلوكه هو المقبول وقيمه تنزل منزلة الأوامر والنواهي.

تحاول الروائيتان أن تطيحا هذه المعادلة "الإستشراقية" (بالمعنى السلبي الذي أسبغ على هذه الكلمة، أي بمعنى طغيان قراءة مركزية منحازة لطرف واحد). تقاربان الموضوع بنفحة أنثوية مناضلة، متأثرة بوضوح بأفكار الحركات النسائية. إنهما تحرضان المرأة، كشخصية روائية، على الخروج من الحكاية المسبقة الحبك وامتلاك الجرأة على امتلاك الصوت الخاص ورفض النص الرجولي المدون بصيغة تقارب القداسة.

هما تستفزان القارىء كي يعيد النظر في مواقفه ويعيد قراءة النص بمنظار جديد. إنهما تربكان الشخصية الروائية داخل النص والقارىء خارجه كي يعترفا بحق تقرير المصير الكامل للمرأة البدوية: حقها في أن تسرد حكايتها بنفسها لا أن يرويها الآخرون.

هذه خطوة نسوية، فيمينيست، بكل تأكيد. ولكنها خطوة محمودة. الحركة النسوية ساهمت في إعادة قراءة النصوص الأدبية وتأويلها بمقاربات جديدة نزعت عنها قشرة الطغيان الذكوري (بالنسبة لنصوص دي. آتش. لورانس، مثلاً).

كتبتت فرجينيا وولف، ذات مرة، أن النقد كان يصنف نصاً روائياً ما على هذا الشكل: "نص جيد لأنه يروي عن الحرب ونص سيء لأنه يتكلم عن مشاعر النساء  في غرفة الجلوس". والحال أن الكاتبتين ترسمان صورة شفافة للبادية ليس كمكان ستاتيكي بل كواحة تتغير باستمرار. البادية تغير جلدها. تزحف مع زحف الكثبان، ولكن نحو الخضرة، أي في اتجاه الماء والعمران.

قد تكون الشخصيات الروائية عند الكاتبتين خيالية أو لا تكون ولكنها، كلها، تحمل سلوكيات وأنماط العيش البدوي في صيرورة متحولة من دون توقف. البادية تدخل إلى العالم من بابه الواسع. تتأثر به والأرجح أنها تؤثر فيه أيضاً. إنها، مثل أي بقعة في أي ركن على وجه الأرض، تتعولم. ولكنها إذ تفعل ذلك تتشبث بجذورها، أي أنها تسعى في الجمع بين نقيضين: الصحراء والمدينة.

في نصوصهما تجهد الكاتبتان في سبر غور هذا التحول ورسم اتجاهه، الذي قد يكون سائراً نحو النهاية. ربما لهذا هناك الكثير من الغنائية والنوستالجيا في نصوص ميرال الطحاوي ولينا هويان الحسن: الحنين إلى ماض عزيز والبحث عن زمن ضائع. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها