الأحد 2021/08/01

آخر تحديث: 16:45 (بيروت)

يوم اقتنعت مريم خيرو بالتعري أمام قيصر الجميّل

الأحد 2021/08/01
يوم اقتنعت مريم خيرو بالتعري أمام قيصر الجميّل
من لوحات قصير الجميل
increase حجم الخط decrease
عطفاً على القسم الأول من مقال طويل عن الموديل العاري مريم خيرو، وهو من ضمن ملف "لبنانيات بهويات كثيرة"، هنا القسم الثاني:

قد يُطرح سؤالٌ لماذا رسم الفنان حبيب سرور مريم خيرو كوجه بدوي، في أول لقاء جمعهما. تقول الناقدة اللبنانية مهى سلطان أوصل حبيب سرور "موضوع البدويات الى ذروته التعبيرية الحافلة بالشجن واتقشف والمعاناة الانسانية التي تكتنفها الأسرار". يعود موضوع البدويات في فن سرور إلى مرحلة إقامته في مصر، "فقد لفتته في وجوه النساء غموض اللباس الأسود وشكل الخمار، ومظاهر البداوة في بر مصر وصعيده. لم تكن المرأة إلا عالماً مغلقاً... وليس حبيب سرور وحده من كان يرسم وجوه البدو، ظلّت الفنانة ماري حداد طويلاً تخاطب جمال البدوية ذات الوشم بلباسها الأسود وملامحها الغامضة. حتى عندما تبنى قيصر الجميل مريم خيرو كموديل رسمها بثياب حورانية بدوية مزركشة، هكذا كانت البداوة (أو الوجه البدوي) مقدمة لرسم الجسد العاري، وكلاهما (رسم البداوة والجسد العاري) من نتاج التأثُر بالغرب وحركاته الاستشراقية ومدارسه...


والحال أن قيصر الجميّل يعتبر من رواد الحداثة في لبنان، ويعد من أبناء الجيل الثاني من الرسامين اللبنانيين الحداثيين، وأصبح من "متممات مظاهر الثراء والأرستقراطية" أن يكون في البيت لوحة بريشته. ومثّل بحسب الناقدة والكاتبة سارة روجرز​ "الانتقال من نمط الرسوم الشخصية الأكاديمية، تلبية لطلب الزبائن، الذي كان سائداً لدى أسلافه، إلى رسم المناظر الطبيعية والعراة والطبيعة الصامتة، بالألوان الزيتية والمائية والباستيل"، وعلى غرار رونوار والفنان اللبناني خليل صليبي، "أبدى الجميّل شغفاً في رسم النساء العاريات، مما يعتبر عنصراً أساسياً في التدريب الأكاديمي وبالتالي ركيزة من ركائز صناعة الفن في كافة أكاديميات الفنون الأوروبية. بالنسبة للانطباعيين مثل رونوار، يعتبر الجسد العاري الموضوع المثالي لقلب المفاهيم الفنية السائدة واستكشاف تجريد الأشكال من ماديتها من خلال الضوء. على نفس المنحى، تظهر مجموعة الجميّل الرائعة من لوحات العراة، بالألوان الزيتية والباستيل والألوان المائية، التجريب المتواصل لوقع الألوان المشبعة بالضوء وضربات الفرشاة الإيقاعية". في مرحلة كان الكاتب رشدي معلوف يقول بأنّ "الزليطات خير مثال عن اللوحة الحديثة الناجحة"، وكان لكل رسام عارياته، من عاريات مصطفى فروخ غير المتلكفات، إلى عاريات رشيد وهبي الشرقيات الفاقدات للاغراء الجنسي، وهو رسم المرأة لذاته وخبأ الرسمة ولم يعرضها في معرض، في المقابل، قيصر الجميل بحسب الناقد والفنان عمران القيسي، سوف يكسب من استاذه خليل الصليبي طاقة رسم الجسد الانثوي، ولهذا نراه يبدع في رسم موديله العاري (مريم) امتثالاً برسم استاذه الصليبي لانموذجه (زوجته كاري)...


تحدثنا مريم خيرو في كتاب "حكاية جسد"(*) لناديا النمار عن معاناة الجميّل لإقناعها بالتعري كي يرسمها، لم تكن متعلمة ولا مثقفة، ولم تقرر أن الموديل خيارها في الحياة، أو هذا شغفها، بل دخلتْ في هذا العالم بشيء يشبه الاستدراج مصحوباً بالاقناع والمعاناة، والتعري أو التجرد من الثياب حصل على مراحل. هكذا جاءت إلى المهنة بالصدفة، أو قدرها أن تكون موديلاً عارياً، وكانت تتمتع بـ"جمال داخلي انعكس جمالا خارجيا، ارست ببساطتها أسس حركة تجديدية في الفن"(ناديا النمار)، بعدما شجع الجميّل مريم على أن تكون موديلاً، لم تمض أسابيع أو أيام حتى طلب منها أن تخلع ثيابها من أجل اجراء دراسة عن جسدها. ترددتْ كثيراً في البدء لأنها كانتْ خجولة جداً. فأحضر قيصر كتباً وصار يريها صور عراة رسمها كبار الفنانين. وشرح لها بإسهاب أن التعري في مرسم الفنانين ليس عيباً، وعند اصراره وخوفاً من أن تخسر عملها لديه، بدأت تخلع ثيابها قطعة قطعة يوماً بعد يوم، حتى أصبحتْ بعد أسبوع أو أسبوعين تجلسُ امامه بثيابها الداخلية فقط... هكذا كسرت "التابو" هي التقليدية الآتية من مجتمع تقليدي وبسيط، وأصبحت موديلا عارياً مع انها كانت تخدم عائلة الجميل في الجميزة... أقنعها قيصر الجميل بالتعري من خلال "اطياف مقدسة"، مرة بشعار "ان العري ليس عيباً"، ومرات بصور لفنانين عريقين، والأبرز صور القديسين العراة... فذات يوم بحسب ما تنقل ناديا النمار، قال لها إنه طُلبتْ منه لوحات عدة لتزيين كنيسة، وان هذا عمل مهم سيأخذ منه وقتاً طويلاً لإنجازه، ودعاها إلى أن تتخلى عن كل اشغالها في الخارج وتتفرغ له كليا. فأفرحها ذلك وهنأته لحصوله على هذا العمل وطبعت له قبلتين على وجنتيه وضمها إليه بحنو وكبرياء. وفي اليوم التالي طلب منها أن تتخلى عن كل ثيابها. فسألته هل القديسين كانوا في أيامهم عراة؟ فضحك لسذاجتها، وقال إن بعض الفنانين رسموا القديسين والملائكة عراة، أما هو فيريد ان يرسمها عارية ليتحكم بالمقاييس والحركات ثم يضيف إلى هذا الاجسام الملابس الملائمة، واراها كتباً فيها رسوم دينية لكنائس شهيرة في العالم. في تلك اللحظة كانت لا تزال في ثيابها الداخلية فحسب، ورأت نفسها مقتنعة بأقواله. ورغم ترددها، أدرك الشيخ قيصر الحالة النفسية التي تعانيها، وقرر ازالة هذا التردد فقال: "هذه صورة آدم وحواء، أي انا آدم وانت حواء، وعلينا في عمل فني أن نلغي الحواجز أي الالبسة التي تغلفنا ونعود إلى حالنا الطبيعية". وتظاهر بخلع ثيابه، في حين أنه لم يخلع إلا سترته الخارجية. فخلعتْ هي عنها ما تبقى من ثيابها الداخلية دون أي تردد لأنها كانت ترغب في أن تمكنه من رسم مفاتن جسدها، وبخاصة أنها كانتْ قد أعجبتْ برسومه تأكدتْ من قدرته على اظهار هذه المفاتن.


في بدء مرحلة التعري كان يريها صورة امرأة عارية ويطلب منها الجلوس مثلها، مصححاً وضع جسدها بيديه التي كانت تحس ملامستها ودغدغتها اللطيفة مما يجعلها تسترخي وتستسلم لمشيئته. كان يبدأ برسم تخطيطات عدة سريعة (كروكي) بقلم رصاص على دفتر خاص، ثم يضع القماشة التي هيأها لهذا العمل على السيبة ويأخذ بيده فحمة سوداء، ويقف أمام اللوحة البيضاء كأنه في وقفة مبارزة، رجله اليمنى إلى الأمام ورجله اليسرى إلى الوراء، ويغمض عينيه نصف اغماضة مركزاً على الجسد، وفي يده قطعة قماش ويبدأ التخطيط بعصبية، ثم يزيل بعض ما يرسم بواسطة قطعة القماش، ويعاود التخطيط مصححاً ما رسم كأنه في حال انتقال أو غيبوبة. وبعد نصف ساعة أو أكثر بقليل بأمرها بالراحة أو التحرك. ثم بعد بعض الألوان على "الباليت" ويعاود العمل، فيثبت بلون واحد الخطوط التي رسمها بالفحم، ويزيل هذا المرة كل أثر للفحم، ويروح يوزع ألوانه على اللوحة بحركات سريعة مبتعداً عن عمله ثم مقترباً، كأن يقوم بحركات راقصة.


تقول مريم خيرو إنها "كانت غالبا تتأمل اللوحات المنجزة دون أن تفقه شيئاً". غير أن اعجابها بجمال جسدها أخذ يتملكها ويجعلها تشعر بأهمية على صعيد تحريك إحساس الفنان ومشاعر الآخرين من خلال عمله.
(*) صدر قبل سنوات عن دار النهار، ونستند عليه في المعلومات الشخصية عن مريم خيرو.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها