الأحد 2021/08/01

آخر تحديث: 09:21 (بيروت)

بيروت التي لم تنفجر

الأحد 2021/08/01
بيروت التي لم تنفجر
مرفاء بيروت(المدن)
increase حجم الخط decrease
حين انفجرت بيروت قبل سنة، في الرابع من آب، وتحوّلت شوارعها إلى سجّادة من زجاج، وتطايرت بناتها في الفضاء، وصارت سماؤها خرقةً مثقوبةً بالدم والدخان، بقي فيها شيء لم ينفجر. ومن لم يرَ هذا الشيء، لا يفقه شيئاً من بيروت.
ولكي ندرك هذا الشيء ونكتنه أسراره، لا بدّ من العودة إلى الوراء، إلى الوراء الكثير، أيّام كانت بيروت منقسمةً على ذاتها، وهائمةً في متاهة ذاتها، ومكسورةً مثل عود ثقاب. آنذاك، كانت بيروت في مهبّ الريح، لا يحمل السيّد ماكرون همّها، ولا يتقاطر إليها القناصل كي يذكّروا الساسة بفسادهم مراهنين على انبجاس النزاهة من رحم الفساد - يا للسذاجة! آنذاك، كانت الميليشيات قد نسيت قضاياها «الكبرى» وتحوّلت إلى مجرّد مافيات تحترم خطوط التماس في ما بينها، لأنّ هذه كانت إيّاها خطوط تقاسم المغانم وقوالب الجبنة. وكانت الميليشيات تتقاتل كلّ واحدة منها مع ذاتها في زواريبها الضيّقة بحثاً عن مزيد من النفوذ المتكوّم فوق متاريس من جماجم رفاق السلاح. آنذاك، قالوا إنّ بيروت التي لا تشبه إلّا ذاتها صارت تشبه كلّ شيء سوى ذاتها. آنذاك، كانت المدينة المتوسطيّة الغرّاء متروكةً لا يعبأ بها أحد، لا يعزّيها أحد، لا يبلسم أحد جراح شوارعها بالحبق والنعناع وزيت الزيتون. لم يكن مرفأها مدمّراً، لكنّه كان منهوباً. لم يكن وسطها التجاريّ عنواناً للفراغ الذي يصنعه حرس المجلس الذين يحرسون الفراغ، لكنّه كان مرادفاً للمدينة التي انسلخت عن ذاتها، وتحوّل قلبها النابض إلى غابة من عواء وذئاب.


آنذاك، هكذا كانت بيروت. هل تذكرون؟ ولكن ما الذي أبقى هذه المدينة على قيد الحياة؟ ما الذي جعلها قبلة الشعراء وتفّاحة الفنّانين وتكيّة عشّاق العشق على الرغم من السنوات العجاف التي صار فيها البارود هو القاعدة وشريعة الغاب هي الشريعة؟ لا شيء فوق العادة. وهذا هو السرّ. تلامذة مدارس يتسكّعون في الشوارع ويداوون الموت بصخب الحياة. معلّمات في صروح العلم يسردن قصص الحضارة على الأطفال، ثمّ يخبّئن حكايات الحرّيّة في علب أنيقة، ويغلّفنها بورق السيلوفان في انتظار أزمنة أفضل تتّسع فيها البلاد للبلاد وتغيّر أحوالها، كما كتب الشاعر العظيم الذي مات ولم تمت كلماته. عشّاق يتوارون في زوايا الأزقّة كي يتعانقوا ويتلاثموا فينتعش الملل بالقبل التي يسترقونها. عجائز تشرئبّ أعناقهنّ من الشرفات المترهّلة كي يتلصّصن على الشمس البيضاء. صوت يصدح من الترانزيستور العتيق ويدوزن أغنيةً مسحورةً للأحبّة ومينائهم. ونساء يصنعن الخبز، ويخبزن الحرّيّة، ويجترحن الحياة فيما الرجال الحمقى يطلقون الرصاص من فرط الضجر. هل تذكرون هذا كلّه؟ هل تذكرون المدينة التي كانت تنتشل الحياة من قلب الموت وتستدعي الشمس من تلافيف العتمة؟


هكذا تعلّمت مدينتنا الحياة. وهكذا كانت مدينتنا تخترع أبجديّةً للحياة فيما هي متّكئة على مأساتها ومشلوحة على رصيف الموت. هذه هي بيروت التي لم تنفجر، ولن تنفجر، لأنّها مدينة تزخر بالحياة، وتستحقّ الحياة رغم كلّ الموت الذي يحيق بها. وبيروت التي لم تنفجر ستنقذ بيروت التي انفجرت. بيروت التي لم تنفجر ستمدّ راحتيها كي تحمل بيروت التي انفجرت وتعينها على طرد شياطينها. يخوض هؤلاء الشياطين اليوم معركتهم الأخيرة. يعوجون القوانين، ويطلقون النظريّات الفضفاضة، ويتسلّون بالكلمات المثقوبة. ولكنّهم يدركون في قرارة ذاتهم أنّ العدّ العكسيّ قد بدأ. ويحدسون بالحوادث العظام التي ستقلب الأشياء فوق رؤوسهم وقصورهم رأساً على عقب. ما همّكم مشاريع الأمم وخفايا الغرف السوداء؟ بيروت التي لم تنفجر هي التي ستصنع الآتيات من التواريخ، لأنّها تقبض على ناصية الحياة وتستبطن في حِجرها طاقة الحياة. أمّا الذين يسعون اليوم إلى تحويل جريمة المرفأ إلى كلامولوجيا فارغة، فسيموتون في خزيهم، ويجرفهم الطوفان، ويتحوّلون إلى هباء منثور. ففي قلب بيروت التي انفجرت تقبع بيروت التي لم تنفجر، سيّدة الانتفاضات، والمرأة الممسكة بالتماعات الصيف واحتمالات الخريف، وحافظة أسرار الآفاق الورديّة والشواطئ الضوئيّة. وفي ذكرى بيروت التي انفجرت، تعالوا نحجّ إلى بيروت الساحرة، بيروت التي لم تنفجر، وتعالوا نواعدها على اختيار الحياة، واستنباط الحياة، ونغرف من تعاويذها ألق الحياة…
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها