الجمعة 2021/07/09

آخر تحديث: 17:27 (بيروت)

غضب الأهالي.. الحقيقي

الجمعة 2021/07/09
غضب الأهالي.. الحقيقي
من اعتصام أهالي ضحايا المرفأ أمام مقر الرئاسة الثانية في عين التينة (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
لعله دقيق القَول بأن ما قيل اليوم، أمام مقر الرئاسة الثانية في عين التينة، وعلى مدخل وزارة الداخلية، غير مسبوق. إذ لم يحدث أن سمعناه بكل هذا الوضوح والبأس الجارح. فرغم مرور عبارات بالمضمون نفسه، خلال العديد من تظاهرات 17 تشرين، لكن هذه الأخيرة مُنيَت باكراً بالتشعب والمتاهات التي ضاعت فيها أقوال وشعارات كثيرة مُحقّة وجريئة.

يملك أهالي شهداء وضحايا تفجير المرفأ ما لم تملكه الثورة/الثورات اللبنانية أبداً. ورغم الرغبة العميقة والأصيلة التي يبعثها هؤلاء الأهالي لدى معظم اللبنانيين، للالتفاف حولهم وحول قضيتهم، كبذرة جديدة لإعادة احياء انتفاضتهم ضد المنظومة كاملة، إلا أن واحدنا يجد نفسه متمنياً ألا "يشوّش" أحد، مهما كان صادقاً ومندفعاً ونظيفاً، على هذا الأداء المبهر لمجموعة صغيرة من اللبنانيين المكلومين، الأقوياء بفداحة خسائرهم أولاً. وكأصحاب تَوقٍ مُلحّ وحيوي لقضاء مستقل ونزيه وكفوء، هُم الذين يمدّون القاضي طارق بيطار بالشكيمة والحماية والدعم، بقدر ما يحتاجون جرأته وإقدامه. هُم السكين الساخن، الوحيد الآن على الأرجح، القادر على اختراق العدالة المجمّدة في لبنان منذ عقود.

هؤلاء المفجوعون بأحبّتهم، شهداء ومصابين، غيرنا جميعاً، وهم يصيحون أن "هالمرّة مش متل كل مرة". صحيح أنهم ليسوا الوحيدين الموجوعين. فالكل مُصاب في هذا البلد الملعون. الكل خسر مالاً ومدخرات في المصارف، وتراجعت تصاريف حياته بفعل انهيار الليرة. الكل لا يجد الدواء، ويذلّه البنزين، ويصيبه الغلاء والإتجار بالأزمة في مقتَل. الكل يعاني انقطاع الكهرباء واستبداد أصحاب المولدات ويتداعى على أبواب المستشفيات والمدارس. الكل شهيد، أو مشروع شهيد، على يد عصابات الفساد والهدر والبطش، الرسمية وغير الرسمية. وقبل ذلك كله، سبح الجميع في بحر النفايات التي ملأت الشوارع، وقبل..، وقبل...

ليست سلميّة أهالي الحُرقة، وضعفهم المنقلب إلى إرادة هائلة، المكمنَ الوحيد لصلابتهم وفاعليتهم، رغم أهميتها. وكذلك ليس تنوعهم العابر للطوائف والأحزاب أو المنفصل عنها، رغم أساسية السّمة هذه، مُضافةً إلى تنوّع المسؤولين عن الجريمة. فاحتجاجات 17 تشرين كان لها من تلك الصفات نصيب وافر، وكذلك نصيبها من الضرب والاعتداءات المشينة التي تعرض لها الأهالي اليوم.

شرعية الدم، مِحوَر وثقل، لكن هناك أكثر من القول بأن من خسر أرواحاً لا يعود يخشى أي خسارة أخرى. ولئن سُفكت دماء، وطارت عيون وأصابع، بين صفوف الثوار، كما استشهد مدنيون أبرياء في عمليات اغتيال وانفجارات متنقلة، أقلّه منذ شباط 2005، فإن بركة الدماء التي أغرقت مرفأ بيروت مختلفة في تفصيل أساس: أنه من الصعب تسريبها وتصريفها في قنوات السياسة اللبنانية، بزعاماتها ومذاهبها وقواها المهيمنة عبر السلطة أو السلاح. ولم يُقتل هنا زعيم أو وجيه أو ممثل مؤسسة مسمّاة على جماعة، كما أن المصيبة مستعصية على تصنيفها "حادثاً" مهما مكر الماكرون.

انفجار المرفأ جريمة سياسية ودولتية ومليشياوية بامتياز، لكنه كذلك بمعناه الشامل والكامل، بلا عناوين سياسية، وطائفية وأَمنية، فرعية. هو انفجار نواة المعضلة اللبنانية المتعفنة، وقد شاءت المفارقة أن يُشابه الانفجار النووي من حيث الشكل والوطأة التدميرية. انفجار النظام بأسره. لبنان (اللا)دولة هو الذي فقع. هنا التظهير الفجّ والمباشر والدموي للانهيار الذي تتوالى فصوله من قبل ومن بعد.

في قضايا وملفات أخرى، سهُل على مختلف أطراف المافيا المتحكّمة تقاذف الاتهامات، وتضييع الضحايا في الدهاليز. المسؤوليات عن شح الدواء واحتجاز الأموال في المصارف، وسائر المصائب الراهنة، تتوزع بين مؤسسات وأجهزة ومليشيات عديدة، بكامل سلالمها الوظيفية والصلاحيات والنفوذ الميداني. وعلى اتساع المروحة هذه، سنجد مجرمين كاملين وأنصاف مجرمين وأرباع أبرياء، والتفنيد يسبب الدّوار ويستنهض العصبيات، يشتت الحراكات ويغذي منطق "لماذا فلان دون فلان؟"، اللهم إلا إذا قامت ثورة من النوع الذي لا يبدو لبنان موعوداً بها قريباً. 

قضية أهالي ضحايا المرفأ، واضحة، وكذلك أعداؤهم في سياقات الارتكاب. كل من يعرقل هذه القضية عدو، وهدف للملاحقة المطلبية والأخلاقية تمهيداً لتلك القضائية، سواء من المتورطين أو الحُماة لمتورطين أو حتى لمشتبه فيهم. لمرّة، قد يشعر المرء أنه أمام غضب الأهالي.. الحقيقي والناجع. وليس ذاك الذي تتلطى خلفه قوى الأمر الواقع لتبرير إشكالات وتعدّيات وانتهاكات في هذه المنطقة أو تلك، كأضحوكة "شي فاشل". هذا الغضب الصافي، العاصف والرائق، العفوي الأصيل والمنتظم، ربما يكون الأمل الوحيد الباقي لعدالة الأرض، ولو لمرة واحدة واستثنائية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها