الثلاثاء 2021/07/06

آخر تحديث: 17:52 (بيروت)

حقيبة لبيروت

الثلاثاء 2021/07/06
حقيبة لبيروت
مطار بيروت (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
تفتحها على السرير، خاويةً، وفي خيالك تشرع في ترتيبها، مرةً واثنتين وثلاث... الحقيبة التي ستحملها، هذه المرة، إلى بيروت، هي غيرها. حقيبة سياسية، بل سيادية. مثلك مثل آلاف وزراء الظل... على وصول.

المساحة تضيق بالثياب والأحذية، بالعطور-الهدايا والكتب، والألعاب في عُلبها. المساحة الآن للأدوية التي بات صيادلة أوروبيون يوافقون على بيعها وفقاً لوصفة من خلف البحار، ما إن تذكُر أمامهم إسم لبنان. وقد تضيف حليب الأطفال. وصغائر السلع التي، بها، قد يُرحَمُ عزيز قوم. فمن اعتاد فرشاة أسنان من ماركة معروفة، أو مسحوق غسيل بعلامة الجودة، ربما تخلّى عنهما مع عادات استهلاكية كانت ذات يوم بديهية. وأن تُحضر له مثل هذه الأشياء من اغترابك، ربما يعيد له شيئاً من ألق "العادي" المقتول. ولو كانت عبوات المحروقات مسموحة، لعمّت أبخرتها مطارات العالم حيث تقلع طائرات إلى بيروت.

تفتح الحقيبة الكبيرة، وتلك التي ستحملها بيدك، وتذكّر نفسك بأنك لست مجرد مغترب عائد في إجازة. أنت مهجّر قسري من كل ما شيَّدتَ وزرعتَ، هُجِّرت قبل الحصاد. وأنت نفسك متطوع للإغاثة. وهذه ليست حقيبتك، مثلما أن غليون ماغريت ليس غليوناً. إنها حاوية رغبات وإرادات واحتياجات، المنطوق منها والمكتوم، الضروري منها والكماليّ المُفتَقَد.

وأنت كالذاهب "للتخييم" في أرض مقطوعة. بيروت خيمتنا، خلافاً لما صوّره محمود درويش. بيروت نجمتنا، لأن المدينة التي عرفنا وعشنا، تبدو بعيدة، ذكرى مضيئة في قبّة ليلية مدلهمّة. بيروت خيمتنا ونجمتنا، تلك التي شكرها محمود: "شكراً بيروت الخراب". وإذ يُكمِل، يبكينا، لأننا "سبايا في هذا الزمن الرخو، أسلَمَنا الغزاةُ لأهالينا" الذين ما زالوا يتعاركون فوق أشلائنا على حصصهم من منهبتنا.

لكن، عليك كحامل للحقيبة ألا ترتخي كذلك الزمن. ستتعلم بذل الجهد الجديد لتحصي حاجاتك الأساسية أنت أيضاً، وتستخرجها من سلّة "المُسَلَّمات". ليس خوفاً على نفسك، بل توجساً من أن تصبح، بين أهلك، عبئاً لا ينقصهم، إن مرضتَ، أو احتاج طفلك خافض حرارة. حكومة مصغرة هذه الحقيبة، ومثلها محفظتك التي لن تنسى تلقيمها بما استطعت من العُملات الصعبة، الشاقّة. سيناريو بيروت هذا، هو أنت ويومياتك، لولا أن حملك القدر مرة إلى طائرة مغادرة. والحق إنه ما زال سرديّتك، وما زال جنى العمر مُصادَراً في كهف مصرفي.

جردة سريعة للهاتف... هل أخبرتَ الجميع بقدومك؟ هل استفتيتَهم كلهم في ما تجلبه لهم؟

أخبار عن ضياع حقائب أو سرقتها في مطار بيروت، تُصيبك بالتوتر، لكنها لا تُفاجئ. الناس مُحاصَرون من الداخل. تحتلّهم سُلطتهم "الوطنية". وحقائب المغتربين مناجم نقّالة. والأمن يهدينا سَلامَه.

الخوف الحقيقي من مفاجآت أخرى، مما ستجد أو لا تجد في بيروت التي يقولون إنها ليست بيروت التي غادرتها مُبحِراً في دموعك.

مجدداً، تعيد ترتيب حمولتك في رأسك، للمرة العاشرة: لا بد من حمل الأدوية باليد، هذه هي الأثمن. وها هو "أمن المطار" ينفي "الشائعات"، فيشير مثلاً إلى "حقائب متروكة سهواً وتحتوي على مبالغ مالية ومجوهرات وأمتعة قيّمة لا مجال لتعدادها، بحيث تم الاتصال بأصحابها داخل لبنان وخارجه وقد حضروا واستلموا حقائبهم". مَن ذا الذي "يسهو" عن حقائب من الفصيلة هذه؟ وكيف ابتعدوا عنها "داخل لبنان وخارجه"؟! "السهو" على هذه الشاكلة لا مرجعية له في الذهن سوى الأفلام. مَشاهد تسليم وتسلّم حقائب الممنوعات المهرّبة، أو تلك التي يتم إبعاد الناس عنها لتشمّها كلاب مدرّبة أو يتعامل معها خبير متفجرات. لكن، لا شيء بسيطاً في حقيبة وافدة لبيروت، لا شيء رخيصاً. كلنا، بالآلاف، نُدخل السلع والبلاسِم الممنوعة على ناسنا.   

في زمن قريب، غابِر، كانت حقيبة الإجازة في الوطن، كبسولة حياة. تلك التي تُبنَى على مهل في الخارج، وبموازاتها تلك المرتقبة لمكوث وجيز في رحاب شَوقٍ على وشك السكون. كانت تحوي ما أصبحنا عليه، أغراضنا المستجدّة ونمط العيش الذي بات عيشنا، تشعّب يومياتنا، وأعمار أولادنا. وكانت تتسع لمُبتَكرات هي، فعلياً، إجابات متعددة على سؤال واحد: ماذا أجلب لـ(...) وليس في متناولهم في بيروت؟ كانت حقيبة أفكار وقصائد وقُبُلات عينية. فأضحت حقيبة تضامنية، إسعافية لدعم بقاء الوافد والمقيم. بُشرى حزينة، تُسكِّن المؤقت، ثم تُسيل كآبة اليوم التالي. لكن حقيبة كل شيء، لا تتسع الآن للحزن. ربما في رحلة العودة. اليوم هي الموعد الموضّب، ونحن "كأنَّنا أسلافُنا نأتي إلى بيروت كي نأتي إلى بيروت".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها