الإثنين 2021/07/05

آخر تحديث: 13:09 (بيروت)

ديفيد بوي كأكثر من كائن بشري

الإثنين 2021/07/05
increase حجم الخط decrease
غريب هو التفرج على أغراض تدور حول راحل بعينه، إذ أن تجمُعها يبدو دوماً كمحاولة لتصحيح غيابه، لجعله حاضراً من دون أن تنجح في ذلك، بل إن غيابه نفسه ينعكس عليها. هذا هو مثلاً حال مجموع الأغراض التي جمعها عدد قليل من محبي ديفيد بوي، وأتاح مسرح le palace(*) في الدائرة الباريسية التاسعة، عرض مئات منه تحت عنوان "اوديسا بوي". فقد بدت أنها تحاول أن تسد غياب الفنان، لا سيما عبر تقديم حكايته، التي سرعان ما تحيل إلى كونها تسير من دونه. هذه الحكاية غنية للغاية، وربما وصفها كذلك ليس دقيقاً أيضاً، فهي حياة بأكملها، يمكن، وبالتقدم من غرض إلى غرض، التنبه إلى رحابتها، لكن يمكن التنبه إلى كونها كانت تحتاج حتماً إلى دنيا أخرى تقدر على احتوائها. كما لو أن موت بوي كان، وبشكل من الأشكال، تحقيقاً لهذه الحاجة، إذ ذهب الى مكان جديد لكي يكمل حياته التي لم تتسع لها الأرض!

أول ما يلفت في تلك الأغراض، صُوره الكثيرة: صُور في العالم كله، صور مع الكثير من الناس، صور على الكثير من الأغلفة، صور على الكثير من ملصقات الأفلام، صور في وضعيات متعددة، صور مع الكثير من الخلفيات، صور مع الكثير من الأزياء. في هذه الصور، ليس هناك بوي واحد، بل هناك الآلاف. فها هو في العام 1971، يجلس على كرسيه في مكان غير محدد، مع تسريحة خفيفة لشعره الطويل، ونظرة تجمع الحزن والسخرية. أما بعد عامين، فيبدو مختلفاً للغاية، في تلك الصورة الشهيرة التي التقطها له بريان دافي، لألبومه السادس، وعلى وجهه خط أحمر وخط أزرق. بالطبع، ثمة شيء ثابت عند بوي، أكان في حين لعبه الفوتبول العام 1987، مثلما هي حاله في صورة لدينيز أو ريغان، أو في حين وقوفه أمام الميكروفون في ماديسون سكوير غاردن بنيويورك العام 1983، وهو سحره. سحر بوي هو خليط الكآبة، مع نوع من الهدوء والكسل، كما أن سحره، وهذا أهم، هو كونه فضائياً، بمعنى أنه غالباً ما يحمل على شعور بأنه ليس من هنا، ليس من المعمورة، بل من كوكب ما. حتى في صوره، التي يرتدي فيها بذلة رسمية، هو يبدو على هذه الفضائية، التي مهما تنكر، تظل موجودة أمام مشاهده، مُذكرةً بما قاله مرة: "لقد ألحّت عليّ دوماً حاجة رهيبة في أن أكون أكثر من كائن بشري، فأشعر أنني معاقب بكوني هذا الكائن".

الى جانب صور بوي، هناك أسطواناته الموسيقية، وهي فعلياً ليست مجرد أسطوانات، بل تحف فنية، لا سيما أن أغلفتها، من ناحية، تجيء على تصاميم متنوعة، ومن ناحية ثانية، تشكل إطلالة على زمن ماضٍ. هذا الزمن هو زمن الفن الشعبي في أوج ذكائه، قبل أن يفقد هذا الذكاء، ويصير بلاستيكياً. لكن، ليست وحدها تلك الأسطوانات القديمة هي التي تحيل إلى زمن ماض، بل الأقراص المدمجة معها. فيمكن ملاحظة أن هذه الأقراص هي أيضاً تنتمي إلى الغابر من الأيام، كما لو أنها صارت من التراث. أمام هذه الأسطوانات والأقراص، لا يمكن سوى التفاجؤ بكميتها، كما لو أن بوي كان معملاً للأغاني، لا يتوقف عن تصنيعها، وعن أدائها. بالإضافة إلى ذلك، يقدم الغالب من تلك الأسطوانات والأقراص، بوي واقفاً على المسرح، حيث، من فترة إلى أخرى، تتغير هيئته. فبين السبعينات والتسعينات، تخلى عن طيّ جسده، أو إمالته كما لو أنه يعرض أزياءه، صار على حركة أقل، كما أن جسده ما عاد يبرز كثيراً بأكمله، قبل ان يترك كل الإطار لوجهه أمام الميكروفون فقط. لكن، ومهما اختلفت الفترة، فهذا لا يلغي أن بوي، ومن الأسطوانات إلى الأقراص، يستوي على سمة أساس، وهي أنه، وباستمرار، على أهبة التغير إلى درجة ان يبرز أحياناً كواحد من تلك الأشباح التي أراد أن يوقظها بموسيقاه، قبل أن ينسحب إلى عالمه معها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها