الأربعاء 2021/07/28

آخر تحديث: 13:10 (بيروت)

جبّور وأنا... والموت بيننا!

الأربعاء 2021/07/28
جبّور وأنا... والموت بيننا!
لم يصارع ولم يقاوم لأنّه كان يعلم..
increase حجم الخط decrease
آخر ما كنت أتصوّره أن أكتب عن صديقي جبور الدويهيّ، فقيداً منعيّاً، وأن أنشغل عنه كاتباً وروائيّاً وناقداً وفنّاناً مبدِعاً بالكلمة والأناقة، وعَلَماً واعداً بالمزيد والكثير على المستوى العربيّ والعالميّ.

لكنّ الموت طاغٍ، مستبدّ وقاهر، وهو منذ أشهر يذرّ بقرنه منذراً.

رأى جبّور الموت محوّماً حول بيتهم، خطف الكورونا أخته تيريز، وقاومه ونجا أخوه أنطوان، ثم أخذ العجز والحزن والدته، فظلّ جبّور ملتزماً الحجر حتى بعدما خُفّفت الإجراءات. عرضت أن نزوره، مع صديق أو اثنين. رحّب لكن عندما يدفأ الطقس ونجلس متباعدين خارجاً في الجُنَيْنة. عرضت أن آخذه بالسيارة ونقوم "ببرمة" نحكي وندردش كعادتنا من زمان طويل، وافق وتمنّى، لكن التردّد تغلَّب في النهاية والاحتراس أنسب: "أنا يا جان إذا دَق فيني الكورونا، بياخدني دغري، ما في مقاومة، مناعة صفر". هشاشة ومعطوبيّة!

يتّصل صباح يومٍ: "سأرسل لك روايتي الجديدة، تعطيني رأيك". "طبعاً وأنا أرسل لك روايتي الجديدة". وصلتني بالمايل وليس على الورق كالعادة قبل إرسالها للطباعة. قرأت، وأمسكت رأس الخيط، جبّور بعد تسع روايات عاد إلى "الأنا"، وإن تكن "أنا" الراوي، الشخصيّة بطل الرواية، لكن كلما تقدّمت في القراءة ازدادت فيه ملامح جبّور، وفي النهاية أدركت أنّها الرواية الأخيرة! جبور يقول لنا وداعاً، مع "بَصْقة" على هذه الحياة التافهة... وأسفٍ على كلّ جهد مبذول فيها.

طبعاً أبديت رأيي في الرواية كعمل فنّي، وتناقشنا كالعادة، من دون أن أحرجه وأحرج نفسي بالوداع. ثم عاد واتّصل ليحدثني عن روايتي ويعطي رأيه.

بعد أيام نشرت في جريدة "النهار" الإلكترونيّة نصّاً خاصّاً. كنت قبل فترة تعرّضت لعارضٍ صحّي، غبت فيه عن الوعي لربع ساعة، وتخيّلت نفسي متّ، وقلت إنّ الموت جميل إذا كان مثلما متّ أنا، وفي النصّ عبارة تطمئن القارئ لسلاسة الغياب والانفصال عن العالم. اتّصل فوراً: "نصّك جميل، أعجبني كثير، حلو! بس ليش كتبته؟". ومن طريقة سؤاله، وأنا الخبير بصوت جبور ونبراته وإيحاءاته عندما يتكلّم، فهمت أنه ظنّ أنّني أقصده. كظمت غصّتي، وذكّرته بعارضي، وأكدت له أنني كتبت ما أحسسته وما لم أحسّه وقتها... وأخفيت عليه أنّه مرّ برأسي مراراً وتكراراً وأنا أكتب ذاك النصّ، وأنّني ربّما أردت طمأنته، نعم، هو شخصيّاً، وطمأنة نفسي إلى أنّ لحظة العبور تلك إلى اللاإنوجاد ليست بالأمر العسير ولا المؤلم.

ولم أذكّره بحديث قديم بيننا عن الموت، والنزاع ومفارقة الحياة. وكان رأي جبّور يومها أنّ جسم الانسان عندما يتقدّم في السنّ، أو يمرض، ربّما يُفرز موادّ، أو تحدث فيه تحوّلات جينيّة، أو تتولّد عنده حالات نفسيّة إيجابيّة تجعله يتحمّل نزاعه وتسهِّل عليه تقبّل فكرة الموت. وأنا متأكّد، أنّ جبّور، في الشهرين الأخيرين، لم يصارع ولم يقاوم لأنّه كان يعلم، بل كان يختبر تلك الحالة ويدقّق في ما يحدث عنده من تحوّلات محضراً لكتابتها لو أُعطي له وقت قليل بعد لِنَقْر الأحرف أمام الشاشة. فعندما خرج من العناية الفائقة إلى الغرفة في المستشفى، بعد غيبوبة طويلة، بادر هو إلى الاتصال بي، ولمّا لم أسمع صوته الواهن بوضوح قامت ابنته ماريا بدور الوسيط ونقلت إليّ ما أراد قوله: "رحنا ورجعنا"، تذكيراً أكيداً بمقالتي وتجربتي وكلامي على الموت المؤقَّت الخفيف، ومزاحاً استخفافيّاً ومؤكّداً على فكرة المقاومة والقبول، وهذا ما لمسناه، نحن الأصحاب الذين كنا نعوده في بيته بعد خروجه من المستشفى. لا تذمّر، لا توجّع، بل كلام وأخبار وذكريات وتعليقات وأمنيات، بقدر ما سمح له صوته الواهن، تشي بحبّه الحياة ورغبته وقدرته على التعامل معها بإيجابية حتى في حالته الحرجة. وليس أدلّ على ذلك من "البوست" الوحيد والأخير ربّما الذي أنزله على صفحته بعد خروجه من الغيبوبة:
"Encore des huitres, toujours des huitres à Beyrouth"

"المزيد من المَحار، ودوماً محار في بيروت". عبارة تختصر كل حبّه الحياة، بكل الفولكلور الذي كان يسبغه عليها مع أصدقائه الحميمين في بيروت. حبّ الحياة هذا أساسيّ وقديم عند جبّور، حتى عندما صوّر الجوانب المأساوية، كان يحاول بشكلٍ أو بآخر أن يزرع ضوءاً في مكانٍ ما يبدّد به بعض سوداويّة العالم. أذكر يوم أنهى روايته "ريّا النهر"، وقرأتها وتناقشنا فيها. وإذا به بعد يومين على الأكثر، يلاقيني بها من جديد: "اقرأ الخاتمة، لقد غيّرتها"، قرأت ولاحظت كيف غير الوضع النهائي في الرواية من لوحة موت أو غياب قاتمة سوداويّة، إلى فسحة مضيئة بتلك "الحياة الأميرة" التي صارت على لسان كلّ قرّائه. وبرّر لي سبب قراره هذا: "اولادي رح يكبروا، ويقروا روايتي، ما بدّي إزرع فيهم اليأس ونفّرهم من البلد. بدّي يضلوا عايشين هون".

أراد لأولاده البقاء هنا، معه ومثله هو الذي لم يغادر بلدتَيْه زغرتا وإهدن، بل حملهما معه إلى العالم، وحمل العالم إليهما بذاتِه المحدِّثة والراوية. أحبّهما وأحبّ الحياة فيهما ولَهُما، وكما أحبّ الحياة للوطن ولمن حوله، ولذلك نادراً ما رأيناه خارج أي نشاط محلّي واعد، هذا إذا لم يكن هو وراءه ومحرّكه ومديره، من جمعيات وحركات ثقافيّة واجتماعيّة إلى مسرح ونوادي سينما ونوادٍ رياضيّة وغيرها. كل هذا جذّره في المكان الذي أحبّه وتعلّق به وبأهله، لأنّ للأهل حاجةً يوماً ما، فـ"الموت بينهم نعاس".

عرفت أنّ الموت قادم، وأخال جبور عرف، وأعطانا الإشارات وأنا مرّرت له منها عن غير قصد. تكتّمنا وكتمنا معرفتنا أحدنا عن الآخر، حتى عندما كاد القلم والكلام يفضح المعلوم، لخوف وخشية، لرغبة في عدم الاستسلام، لئلّا ننكسر قبل الأوان، لأملٍ وإيمان بأعجوبة ما... لتسليم بما لا مفرّ منه.

عرفت وعرف، الموت على الباب، فانفتحت بيننا لعبة العارِفَيْن الحائرَيْن والضائعَيْن بما عرفاه.

أحبّ جبّور الحياة وأمضى عمره يبث فيها نفَساً من نَفْسِه "المهدّدة بالنضوب" كما قال على لسان بطله في روايته الأخيرة "سمّ في الهواء". ولو تيسَّر له الآن من عليائه، لكتب لنا عمّا أحسّ به وهو "ينزل من القطار" و"يبتعد عن الدنيا". لكتب لنا أنّ موته ليس سقوطاً ولا انطفاءً مؤلماً، موته، كما وصفه في آخر سطور من آخر رواية له، هو سفرٌ وتحليق وابتعاد عن النظر في أفق مفتوح على اللانهايات... دعوة صريحة منه إلى عدم الحزن، إعلان أنّه هناك فوقنا في مكان ما في هذه الزرقة السماوية النقيّة.

لكن يا صديقي، يا جبّور، لا أنتَ عصيّ الدمع، ولا أنا، وأنتَ وأنا أدرى واحدنا بالآخر!

لم يمهلنا المرض، كنّا نظنّ أنّنا سنقطِّع العمر حتى آخر وصلة! وربما هذا ما أردتُ قوله في ذاك البوست من العام 2011، وفيه أحكي عن العمر الراكض بنا، بعد مضي ثلاثين سنة على أوّل مسرحيّة عرضناها، "مهاجر بريسبان" وأنت فيها العجوز المتهكّم العارف بخفايا الحياة والبشر والعازف على الأرمونيكا ساخراً وضاحكاً من مهازل الحياة.

مع دموعي الأولى على جبّور، صادف أن أعاد إليّ الفايسبوك هذه الذكرى. والصورة رسمّ مخطّط على ملصق المسرحيّة بريشة الفنان المرحوم بيار فرشخ، شريكنا في العمل، وأوّل من بكيناه معاً شاباً قتيلاً. وتحتها وجّهت إلى جبّور هذه الكلمات العفوية عن العمر العابر بنا، وهو العازف على أوتاره تشبُّعاً: 


إلى جبّور العازف دوماً على أوتار العمر:

"طالع من هالأرض

ريحة ضجر،

لِمُّوا الحكي ومْشوا

شدّوا عالسفَر

ليكو اللي متل الريح

متل لمح البَصَرْ

عَبَرْ

لا وقفْ عالباب

ولا كَلْ

ولا نَطَرْ"

وإلى جبّور اليوم أقول: ليس هذا آخر الكلام!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها