السبت 2021/07/24

آخر تحديث: 12:50 (بيروت)

سباق بارونات الفضاء: فانتازيا أرضية

السبت 2021/07/24
سباق بارونات الفضاء: فانتازيا أرضية
ريتشارد برانسون يختبر انعدام الجاذبية في رحلته Unity 22 Virgin Galactic
increase حجم الخط decrease
بعد الحرب العالمية الثانية، صار الخيال العلمي واحداً من أهم ساحات الصراع الأيديولوجي المحتدم بين الكتلة الشيوعية والغرب. في الاتحاد السوفياتي، كان الحزب متوجساً من كل صور الفنون الغامضة والقابلة لأكثر من تفسير، والخيال كان كلمة أجنبية في قاموس الواقعية الاشتراكية المعتمد. أراد ستالين خيالاً واقعياً، بلا شطحات، كل شيء كما هو لكن أفضل بشكل فائق، أي أن يكون الخيال واقعاً مبالغاً فيه. سيارات مفرطة السرعة، وأبقار تنتج أطناناً من الحليب في اليوم الواحد. بسهولة، كان يمكن الخلط بين الأفلام الترويجية لخطط التنمية الخمسية، وأفلام الخيال العلمي السوفياتية، فالفارق بينهما لم يكن كبيراً. وبالطبع كانت العلاقة بين هوليوود وواشنطن أقل مباشرة، إلا أن ذلك كان في الظاهر فقط. فحتى من قبل صعود المكارثية، كان الكتّاب والسينمائيون "الحُمر" أو المشكوك في ولائهم، معرّضين لعمليات تضييق ومراقبة، وكان على الخيال العلمي أن يخدم سيداً آخر لا يقلّ قسوة أو عصابية، أي الحلم الأميركي.

في البداية تقدّم السوفيات في الحقلين معاً: الخيال، والواقع المثير للخيال. فقبل صعود غاغارين الى الفضاء في العام 1961، كان الخيال العلمي السوفياتي قد نال مساحة واسعة لحرية الحركة، فالتراجع عن الجماليات الستالينية بعد وفاة الرجل الفولاذي، جلب معه تسامحاً تجاه الخيال "غير الواقعي". في العام 1959، أنتجت السينما السوفياتية واحدة من أيقوناتها الفضائية، فيلم "نيبو زوفيوت"، والذي ستحمل نسخته الإنكليزية اسم "معركة وراء الشمس". الروس والأميركيون في سباق للوصول إلى المريخ. لكن، ولأن الخيال السوفياتي كان مازال واقعاً تحت تأثير واقعيته، فالطرفان، في الفيلم، عجزا عن تحقيق المهمة. الطاقم السوفياتي أكثر فطنة ويدرك محدودية إمكاناته، أما الأميركي فطموحه الشره للتفوق بأي ثمن يدفعه إلى مخاطرة تتركه معلقاً في الفضاء. لا ينقذ السوفيات العالم (كما تفعل أفلام هوليوود دائماً)، لكنهم ينقذون منافسيهم الأميركيين، وينتهى الفيلم بخطبة سياسية مباشرة عن ضرورة أن يغدو الفضاء ساحة للتعاون بين البشر، لا للمنافسة. وتشير المشاهد الأخيرة ضمناً إلى مقارنة بين الأخلاقيات الشيوعية، ومقابلها الرأسمالي، فالفضاء ورحلاته الخيالية أو الواقعية بعد ذلك ليست سوى مرآة لدراما صراع الأيديولوجيات الأرضية.

سيُعرض الفيلم نفسه لاحقاً في الصالات الأميركية، لكن شركات التوزيع ستقوم بتقطيعه والإضافة عليه، بغية تعديل القصة، فيختفي منها السوفيت بالكامل، وتُمحى كل الشعارات والكتابات باللغة الروسية من الشريط، ويوضع شعار وكالة "ناسا" بدلاً منها، وسيقوم بمهمة أمرَكة الفيلم أو تزييفه، خريج مغمور حينها يدعى كوبولا.

الأسبوع الماضي، وصل سباق "بارونات الفضاء" إلى ذروته. المنافسة لا تدور بين دول أو معسكرات أمبراطورية، بل بين ثلاثة رجال بيض، أنكلوسكسونيين تحديداً، في 11 تموز 2021، أصبح البريطاني، ريتشارد برانسون، أول ملياردير يطير إلى حافة الفضاء، ليسبق الأميركي، جيف بيزوس، بتسعة أيام. وحجز إيلون ماسك، مالك شركة تيسلا، رحلة فضائية هو الآخر. يملك الثلاثة شركات تعمل في التكنولوجيا الفضائية. وفيما يركز ماسك على عمليات إطلاق مركبات إلى الفضاء لصالح وكالة "ناسا" بعقود حكومية، فإن برانسون يركز استثماراته على السياحة الفضائية، بتذكرة سعرها ربع مليون دولار أميركي للرحلة. يصرّح بيزوس، مالك شركة "أمازون"، بأنه كان مغرماً بالخيال العلمي في طفولته، وطموحه هو تأسيس مجتمعات بشرية هائلة في الفضاء. أما ماسك، المعروف بشطحاته الكثيرة، فيروج لخطط فانتازية قريبة من ذلك، إذ يسعى لإنشاء مستعمرات دائمة على سطح المريخ في خلال عقدين أو ثلاثة.

تبدو إمكانية تحقيق تلك الطموحات في المستقبل المنظور، وأسئلة الجدوى، أسئلة هامشية، في اقتصاديات تم أمولتها إلى حد أصبحت الهوة بين الاقتصادين الإنتاجي والمالي غير قابلة للتجسير. فالثلاثة من أصحاب المليارات، ازدادت ثرواتهم بمعدلات خيالية، في الوقت نفسه الذي عانى فيه العالم تراجعاً حاداً في الإنتاج والأنشطة الاقتصادية عموماً، بسبب جائحة كورونا.

كما في الماضي، يظل السباق الفضائي في جانب منه، صراعاً أيديولوجياً، تتداخل فيه تخوم الواقعي والخيالي. لكن بدلاً من أن تكون المنافسة بين الرأسمالية وبديلها الشيوعي، فالسباق الحالي يبدو انتصاراً مظفراً لرأسمالية فائقة، رأسمالية تنافس نفسها وهي تشهد تمركزاً كثيفاً وغير مسبوق للثروة في أيدي عدد محدود جداً من الأفراد. الصراع الكوكبي يُخصخص، ويُختزل إلى أقصى درجاته فردنةً. لا تنسحب الدولة بالكامل، فالحكومة الأميركية تظل الجهة التي تضخ النسبة الأكبر من الاستثمارات في المجال، لكن لصالح آليات "السوق" وتحرير الاقتصاد الفضائي، أي توجيه الموازنات العامة لصالح طبقة الثراء الفاحش، أو بضع أفراد، لنكون أكثر دقة.

تختلط في خطاب التوسع الفضائي، ديستوبيات نهاية العالم مع استعمارية جديدة خلاصية. فماسك يتكلم عن رغبته في الموت على المريخ، بعيداً من كوكب الأرض المثقل بالمتاعب. أما بيزوس فيروج لفانتازيا مجتمعات بشرية فضائية تستوعب مليارات البشر، حيث يمكن التغلب على محدودية الموارد الأرضية، ويتولى الثري الفائق دور النبي المستقبلي والعالِم المجنون معاً، وبالطبع يكتسب بعضاً من سمات البطل الأسطوري منقذ العالم والفاتح الجديد. الأكثر واقعية في هذا كله، هو برانسون وسياحته الفضائية الممكنة، والشاهدة على قدرة الثراء الفردي على تحقيق كل شيء، عبر خليط المخاطرة والترفيه، حيث تمتزج أوقات الفراغ مع الأدرينالين، التحرر من الجاذبية الأرضية والنظر إلى الأرض من أعلى. هذا الانفصال شبه الإلهي عن العالم، ولو لدقائق معدودة، لترسيخ الفاصل وتوسيعه بين الأثرياء الفائقين المتباهين بأحجام صورايخهم، وبين بقية البشر الفانين، في الأسفل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها