السبت 2021/07/24

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

جبور الدويهي وفارس ساسين... إن الموتَ ضربٌ من القتل

السبت 2021/07/24
جبور الدويهي وفارس ساسين... إن الموتَ ضربٌ من القتل
عادا معاً الى اللبنانوية
increase حجم الخط decrease
غداة شيوع خبر وفاة الروائي الزغرتاوي جبور الدويهي، بدأتُ أعد الخبر لنشره، إلى جانب اختياري مجموعة من التعليقات الفايسبوكية عنه. طوال الوقت كنتُ أنتظر تعليق صديقه الروحي، المثقف الزحلاوي فارس ساسين، لكن المفارقة أنه لم يعلّق، ولم تمض ساعات حتى قرأتُ خبر وفاته، فلم يمهلنا لنعزيه بجبور... كأن الروائي، وصديقه الموسوعي الفلسفي، اتفقا في اللاوعي على الموت معاً، على المغادرة معاً، على اللقاء في الملأ الأعلى معاً، كما أمضيا شطراً من عمرهما يلتقيان في المقاهي والأمسيات الثقافية والاجتماعية، وكان فارس من المشجعين على نشر روايات جبور، حتى أنه كان يقترح عليه بعض الأفكار في الكتابة، خصوصاً في رواية "طبع في بيروت"...

إنها لمفارقة مؤلمة أن يرحلا معاً، في يوم واحد تقريباً.

اشتهر فارس ساسين بنشاطه السياسي، وبحواره مع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عندما كان يدرس الفلسفة في باريس، العام 1979. في تلك المرحلة القلقة، وضياع اليسار الجديد بين الهويات والتحولات العالمية، كان ساسين من المتعاطفين مع الثورة الإيرانية. وقال مرة في حديث لـ"المدن": عندما اندلعت الثورة، كنت وكثيرون معها. منذ العام 1969 وحتى 1979 تعرفت إلى إيرانيين كثر، سواء في الجامعة في فرنسا أو في الحياة العادية، كان معظمهم ضد الشاه، من الأوساط الفقيرة وصولاً إلى الأوساط الميسورة. كانت الانتفاضة ضد شاه إيران ونتيجة فرضه من الأجانب عبر انقلابات عديدة نظمتها الاستخبارات الأميركية. من هنا، كان ثمة تعاطف فعلي مع الشعب الإيراني، لكن أحداً منا لم يكن يتصوَّر أن الثورة الإيرانية ستنتهي في أيدي الملالي".

وفي مرحلة ما بعد اليسار والتعاطف مع الثورة الإيرانية، عاد فارس ساسين وجبور الدويهي الى "اللبنانوية"، كل على طريقته. بحسب بعض عارفي فارس، "اكتشفه إثنان يختصران روح لبنان في الزمن الحديث: دولة الرئيس السيد حسين الحسيني الذي رقاه الى مصاف رفيع في البحوث والدراسات البرلمانية، وغسان تويني الذي عيّنه مديرًا لدار "النهار" للنشر في بيروت"، وقد وركّز كثيراً على مرحلة الاستقلال اللبناني، وأصدر مع غسان تويني ونوّاف سلام "كتاب الاستقلال، بالصور والوثائق"، وكتاب "البرج" مع غسان تويني، الى جانب كتابه عن سليم تقلا... ومنذ نشر أولى روايات جبور الدويهي لدى دار "النهار"، بدا كأنه في افتتان بسردياته، جمعتهما "اللبنانوية" بكل تشعباتها. فارس، الآتي من زحلة وطقوسها ومائدتها وكأس عرقها، بقي على عشقه لمدينته البقاعية وتفاصيل تاريخها، القديم والمعاصر، وكان والده رئيس بلديتها. وجبور، الآتي من زغرتا وأنماط حياتها، لم تغوِه بيروت ليبتعد عنها، وما بينهما الندوات واللقاءات والأفكار وسمير فرنجية والثقافة عموماً... 


لا أدري الآن كيف يمكن الكتابة عن صدفة الموت بين جبور وفارس، لكن بالحد الأدني هي "صدمة الموت". كل موت صدمة. لكن، في مفارقة جبور وفارس، كأن الصدمة تحتاج تفسيراً ميتافيزيقياً أو فلسفياً، وربما سردية روائية. وبكل الأحوال يبدو الموت هنا "ضرباً من القتل"..

كنتُ أتابع مباحث فارس ساسين في الفلسفة، ورأيه في هايدغر ونيتشه وكانط، وأقرأ بعض روايات جبور الذي أحسبُ أنه كان مهجوساً بالحياة اللبنانية في أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والرمزية، هو الذي فضّل أن يبقى في مسقط رأسه زغرتا بشكل شبه دائم، ولم يختر المدن الساحلية للإقامة... كان يدرّس في طرابلس ويزور مقاهيها، الى جانب مقاهي الجميزة ووسط بيروت، حيث يكون فارس ساسين في انتظاره مع بعض الأصدقاء. كان جبور ميالاً الى "قهوة القزاز" بطابعها القديم، كأنه يجد فيها روح زغرتا. روى الحياة اللبنانية، كتب موت الأشياء وتحولاتها، سواء الأمكنة أو الحياة العامة، الأمر الذي جعل رئيس الجامعة الأنطونية، الأب ميشال جلخ، يقول إن الدويهي يقدِّم لنا رواية ليست نوعًا أدبيًّا وحسب، بل هي تجسيد لقول المفكر البلغاري تزفتيان تودوروف إنَّ الأدب في عصرنا واحد من العلوم الإنسانيَّة، بعدما كان لفترة طويلة العلم الإنسانيَّ الوحيد، مضيفًا: "عندما يسألني شاب، كيف كانت الحياة في ظلِّ الاتِّحاد السوفياتيّ، أقول له: إقرأ الحياة والقدر لفاسيلي غروسمان. وأظن أنَّ كثيرين مثلي يجيبون من قد يسألهم: كيف هي الحياة في لبنان؟ إقرأ جبُّور الدويهي، كلَّ جبُّور الدويهي".

يجعل الدويهي المكان مسرحاً للأحداث والشخصيات. يمزج بين التاريخ والواقع ليصنع وجبته الروائية. وهو نشر الدويهي كتابه الأول "الموت بين الأهل نعاس"، ليتضمن قصصاً عن حكايا أناس الريف المجبولين بهويات تاريخية لا يستطيعون الفكاك منها، و"تدور في المجتمع المسيحي الشمالي كعادة معظم انتاجات جبور الدويهي"، بحسب الروائي هلال شومان. يُبقي جبور من الأدب الريفي، أساطيره وعاداته، لكنه يجعله موصولًا بطيف السياسة. يعتبر الدويهي أنّ شخصيات رواياته اللاحقة (من "اعتدال الخريف" الى "سمّ في الهواء")، "صُبغت بتحولات لبنان خلال القرن العشرين، وأهمّها الحرب، والهجرة، وديناميات اجتماعيّة شهدها لبنان في تريُّف المدينة وتمدُّن الرّيف". هذه الأمور، فرضت عليه استعارات ترمز إلى لبنان، بالرغم من محاولته الافلات منها، فقال: "لا تستطيع أن تكتب عن بيت لبناني (رواية "عين وردة") من دون أن يكون هذا البيت هو لبنان، ما ينسحب أيضاً على مقهى يقع عند نهر (رواية "ريا النهر")، الذي يعكس وضعية لبنان عند مفترق الطريق".

أنَّ كل الأمكنة يمكن أن تُؤوَّل على أنَّها كنايات عن لبنان. أما شخصياته، فقال إنَّه يغنيها بتفاصيل كثيرة غير ضروريَّة للحبكة، لكنَّها تجعلها قابلة للتصديق، وأنَّ في كلٍّ منها أشياء منه. روايته "طبع في بيروت" تأريخ للبنان من خلال المطبعة، من خلال حبكة درامية بوليسية وشخصيات طريفة. في "مطر حزيران"، استطاع أن يستحضر فظائع الاحتراب الداخلي في لبنان من خلال رصد الحياة اليومية في قرية لبنانية، حيث استبدل نظام العدل بمنطق الثأر. في مقابلة أجرتها معه المدونة الإيطالية كيارا كوميتو، أكد الدويهي أن "مطر حزيران" هي "أصعب رواية قمتُ بتأليفها". وأضاف: "إنها رواية غير مترابطة ومحشوة بالقصص والشخوص ووجهات النظر. عندما كنت أكتبها، كنت أشعر بأن كل جزء منها يتسرب من بين أصابعي، وتساءلت حول كيفية إعادتها من جديد". يقول: "كتبتها غبّ الطلب، بعد إجماع أصدقاء أمثال سمير قصير وسمير فرنجيّه على ضرورتها"، في إشارة إلى الحيّز التوثيقي لمجزرة مزيارة في العام 1957.

وشكّل الواقع أيضًا إلهاماً ليبني جبور الدّويهي شخصية "نظام" في رواية "شريد المنازل"، فـ"البطل هو قريب له أحبه كثيرًا. وحين توفي قرأت له ورقة نعي عند المسلمين وأخرى عند المسيحيين". في روايته الأخيرة "سمّ في الهواء" بدا أن الدويهي يعود إلى ذاته، وحياته الخاصة، روى الحياة اللبنانية وفي النهاية روى حياته، يختصر الرواية بقوله "أسكن في قلب أسد، ولا تسكن في قلب إنسان"، نصيحة سمعها قبل أن ترحل أمه، فالإنسان، كما يقال، بئر عميق معتم. مع رحيلها، تحوّلت حياته إلى مسار تراجيدي وجد نفسه مستسلماً له، فيما راح القدر يخطف أصدقاءه، الواحد تلو الآخر. فانزوي بأيامه الأخيرة في بيت يطلّ على بيروت. وكان فارس ساسين يعتبر أن أهمَّ شخصية بناها الدويهي هي شخصيَّة جبُّور الدويهي نفسها... 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها