الجمعة 2021/07/23

آخر تحديث: 17:25 (بيروت)

عريضة العار.. ونائباتها

الجمعة 2021/07/23
عريضة العار.. ونائباتها
increase حجم الخط decrease
... ويبقى، إذاً، بعد سحب تواقيع بالجُملة، توقيعان لنائبتين على عريضة العار التي تجسد "طلب اتهام" وتسعى إلى التصويت على إذن بملاحقة المدعى عليهم في جريمة انفجار مرفأ بيروت أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء المفرغ من أي معنى للمحاسبة، بدلاً من المجلس العدلي وبدلاً من المثول أمام المحقق العدلي القاضي طارق البيطار الذي استدعاهم للاستجواب. والموقِّعتان الصامدتان بلا رفة جفن، هما النائبتان بهية الحريري (كتلة تيار المستقبل) وعناية عز الدين (كتلة حركة أمل).

ومع التفرّس في ذلك الملصق الالكتروني الذي يجمع صُور النواب الموقعين على العريضة، ويُتداوَل في السوشال ميديا لفضحهم وتعييرهم بهذه الشائنة فيما لبنان على أبواب الذكرى السنوية الأولى لتفجير 4 آب، فإن الواحد منا قد يتوقع من نفسه استهجان وجهين نسائيين واثِقين في هذه الصورة الفسيفسائية الكبيرة. لكنه يشعر فقط بـ"عادية" و"بداهة" هذا الأداء اللبناني القحّ، بل يجد نفسه مستسلماً لشعوره، ولا يشكك فيه. وهذا في حد ذاته، وباستخدام أخفّ التسميات، "إشكالية".

ذلك أنه، إضافة إلى كليشيه (لا يجافي الحقيقة تماماً) بأن النساء في مواقع المسؤولية وصناعة القرار، يبدون أكثر تأثراً بالمصائب الإنسانية وتعاطفاً مع ضحاياها، وأكثر من ذلك في جريمة بحجم انفجار المرفأ،.. فإن السواد الأعظم من الدراسات، المدعّمة بالتجارب العملية والنماذج الحية، تخلص إلى أن النساء يحكمن ويشرّعن بأساليب أكثر تقدماً وفاعلية وديموقراطية، وأنهن أكثر التماساً للكينونة البشرية والفردية. وهذه معطيات مُثبتة فعلاً في حالات غربية عديدة، لطالما استُخدمت – عن حق من حيث المبدأ – للدفع قدماً بموضوع الكوتا النسائية، إلى جانب مطلب المساواة الجندرية في قمرات القيادة،  وذلك كلما انشغل البرلمان اللبناني بسَنّ قانون انتخابي جديد أو انهمكت الفئة الحاكمة في مشروع تعيينات.

لكن الواقع اللبناني يثبت ما لم تستطع الدراسات الأميركية والأوروبية سبر غوره، ليس لنقص في الدراسات والدارسين، بل لفجاجة الحالة اللبنانية وتخلّفها. ويظهر بالتالي أن الجندر ليس قيمة في ذاته، ولا هو طبيعة غالبة بذاتها. بل هو عنصر من مجموعة عناصر، لا بد من توافرها مجتمعة، وتضافرها، لتحقيق النتائج النسوية المُبشَّر بها. أما وجوده المحض، وحده، فلا فضل له ولا تأثير في أساليب العمل السياسي والحقوقي.

تكاد الدراسات الجندرية في العالم الأول، تتوافق في ما بينها، بالأرقام والجداول، على إنجازات محددة تفوقت بها السياسيات على زملائهن. وأبرز الخلاصات أن النساء، في البرلمان أو الحكومة، ولأنهن يبذلن أضعاف الجهد الذي يبذله الرجال للوصول إلى تلك المناصب، فإن الواصلات منهن يتمتعن حُكماً بكفاءة عالية. وهن أيضاً أكثر تنظيماً ومنهجية، يمضين ساعات أطول في العمل، أكثر إصغاءً لفريق العمل والنقد، مَرِنات، يبدين اهتماماً أكبر بالقضايا التي تطاول الأفراد، دافعات بتشريعات أكثر إنصافاً للنساء والأطفال، وحققن للمقاطعات والولايات التي يمثلنها إيرادات أكبر وانتزعن لها حصصاً أكبر من الموازنات العامة. والأهم والأكثر لفتاً للانتباه، هو أنهن، على عكس زملائهن الرجال، غالباً ما يتمكنّ من القفز فوق جدران الفوارق والمنافسات الحزبية والإيديولوجية في ما بينهن، لتوحيد جهودهن استثنائياً من أجل قضية بعينها جميعهن مقتنعات بها، وذلك لأنهن لا يمانعن البحث عن القليل المشترك، للبناء عليه، في خضم الكثير المُختَلَف عليه، إن رأين في ذلك مصلحة عامة (وخاصة أيضاً بمعنى إغناء سِيرهنّ المهنية، لم لا؟).

لكن هذا كله، ليكون واقعاً، يستلزم أمرين أساسيين: أولاً، قدر رحب من الديموقراطية، بدءاً من العملية الانتخابية، مروراً بالحريات الإعلامية والدستورية وآليات المحاسبة والرقابة، وصولاً إلى رأي عام معافى ومحترم يُحسب له حساب. ثانياً، حياة سياسية فعلية، تنوجد بفضلها الأحزاب والبرامج والفوارق في ما بينها، والتي حتى القفز فوقها يتطلب وجودها في المقام الأول. حياة سياسية عملية حقيقية، يكون التشريع فيها تشريعاً بحق، والمشاريع تجد من يتابع ويراقب تمويلها وتنفيذها، وأصحابها يتوجسون من الفشل.

في لبنان، لا ديموقراطية من هذا النوع، ولا سياسة. فقط طوائف وعصبيات وجماعات.

النساء غالباً يصلن عبر زعيم الطائفة أو الحزب الشريك في الحكم، أو أنهن يرِثن شقيقاً أو والداً... وفي ذلك، للمفارقة، يتساوين فعلاً مع الرجل، لكنها المساواة التي لا تتيح تمايزهن كسياسيات عن السياسيين، بالأحرى لا تتيح وصول المتمايزات منهن إلا في ما ندر.

هكذا يُفهم بقاء توقيعي بهية الحريري وعناية عز الدين على عريضة العار، كالتزام طائع بأجندة حزبيهما، رغم أن الحريري ذاقت لوعة الجريمة حينما اغتيل شقيقها الرئيس رفيق الحريري، وتصرفت آنذاك بالشكل النقيض، فساهم خطابها وأداؤها ومظلوميتها، المضافة إلى مظلومية طائفتها وتظاهرات 14 آذار، في إسقاط حكومة عمر كرامي وإقرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وخروج القوات السورية من لبنان.

وهكذا أيضاً، يُفهم توقيعا النائبتين ديما جمالي ورولا الطبش (تيار المستقبل)، اللتين عادتا وسحبتا التوقيعين تحت ضغط الحملة الشعبية. لكن الانسحاب هذا ليس مبدئياً وإلا لما وقّعتا العريضة بالأساس، إضافة إلى المعلوم من الحسابات الانتخابية، وأنهما لم تنسحبا إلا بغطاء براغماتي من تيارهما.

تبقى ستريدا جعجع التي لم توقّع، إذ تلتزم بدورها بخطاب حزبها "القوات اللبنانية" وكتلته النيابية، ومع ذلك تستحق لفتة تقدير. وهناك أيضاً بولا يعقوبيان المستقيلة أصلاً، ولعلها الاستثناء النيابي النسائي الوحيد في هذا المجلس، منذ وصولها ولغاية استقالتها، إذ صعَدت (نظرياً) من المجتمع المدني الذي تشابهه في أجندتها وطريقة عملها، رغم الملاحظات.

لا جندر سياسياً لبنانياً، إذ لا سياسة في لبنان. النائبات، في الغالب، ما زلن يولَّين اللجان الخاصة بالأسرة والأم والطفل والتربية، كأنما هكذا بحكم الطبيعة والغريزة، لأن الشكل مناسب. لكن الأداء؟ فلنتذكر من صوّتت/لم تصوّت لقانون العنف الأسري، ثم تعديلاته، وكم من النائبات تعاملن بإيجابية، مثلاً، مع مشاريع تعديلات قوانين الأحوال الشخصية وحضانة الأطفال وملفات الزواج المدني الاختياري ومنح الأم اللبنانية جنسيتها لأطفالها، ولم يغلّبن رضى طوائفهن ومرجعياتها على "نيابتهن".

لا جندر سياسياً لبنانياً. فقط تلك الوجوه المجموعة في صورة معيبة واحدة، خلفيتها انفجار العاصمة. ومَن لسن في الصورة، لسنَ بالضرورة أفضل ممن فيها. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها