الخميس 2021/07/22

آخر تحديث: 11:53 (بيروت)

"بوب آرت" مصري.. كي لا تتحول الحياة مقبرة عابسة

الخميس 2021/07/22
increase حجم الخط decrease
لا يكتفي "البوب آرت"، الفن الشائع الدارج الجماهيري، بتمرده الجمالي على مفهوم النخبة وثقافة الصالونات والتقاليد المنهجية والقوالب المدرسية، وإنما يقدّم، لا سيما في تمثلاته التشكيلية، دعوة إلى تشريح الحياة المعاصرة بأسلوب هزلي، والتهكم على المشهد الاجتماعي الراهن ببؤسه وترهلاته وتناقضاته. ولذلك فإن هذا الفن الشعبوي المتفجر قد لقي ذيوعًا في الحاضر المصري خلال السنوات الأخيرة، تزامنًا مع ثورة 25 يناير 2011 وحركة الجماهير وتصاعد الاحتجاجات والمظاهرات في الشوارع والميادين، ولا يزال إلى يومنا هذا يسعى إلى تعرية الواقع وفضح سوءاته بأساليب انتقادية حادة، رافعًا سلاح السخرية، رغم الحصار السلطوي المفروض.

ينحو "البوب"، منذ ظهوره قبل سبعين عامًا على أيدي آبائه في بريطانيا والولايات المتحدة، صوب تحدّي كل ما هو مستقر وسائد واستاتيكي، منحازًا إلى كافة الصيغ والوسائل البصرية المشحونة بالموروث الشعبي، فهو فن إزاحة الكائنات والأشياء والظواهر من سياقها، واستدعاء الجمال مما قد لا يبدو جميلًا في التصور الاعتيادي، وتحويل الأنماط والأنساق الجاهزة إلى مفاجآت غير متوقعة، وفتح نوافذ مغايرة للإبحار خلف الجوهر والتأمل غير المشروط.

وتشكل التربة المصرية في تمظهراتها الحالية بيئة مثالية لتمدد البوب آرت ونضجه. فمع صعوبة فرص التعبير الصريح عن قسوة اللحظة وفداحتها، يكثر اللجوء إلى التندر، والقفشات، والتضخيم، والتقزيم، والمفارقة، وتوليد الضحكات من رحم المأساة، وهي كلها أساليب متجذرة في الوجدان الشعبي المصري، المفطور على خفة الظل، والتمسك بالمقاومة في أحلك الظروف. ويمثّل "البوب آرت"، إلى جانب "الكوميكس" و"الكاريكاتير" و"الغرافيتي"، النموذج الطليعي الأكثر جرأة للفنون البصرية بمصر، والأكثر تفاعلية في الآن ذاته، استنادًا إلى أن ما يجتذب الناس ويؤثر فيهم يجب أن يكون نابعًا من الحياة بشكل مباشر، ومعبرًا عن تيار الحياة ونبض البشر ببساطة، وفق نظرة تمحيصية، وبوسائط قريبة متداولة.

وقد انتشرت في مصر خلال الفترة الوجيزة الماضية معارض كثيرة للبوب آرت، طرح خلالها عشرات الفنانين تجاربهم ومقترحاتهم ورؤاهم الجديدة، حول المكان والزمان والبشر، وما يجري على الأرض، أملًا في تجاوز القتامة القائمة إلى بصيص ضوء في المستقبل. ومن هؤلاء، الفنان أحمد ليسي، الذي قدّم مجموعة أعمال هزلية بعنوان "أُدخل إلى مكاني الخاص"، معتبرًا المكان منصة أولية للانطلاق نحو استبصار ذاتي خاص على كل المستويات في التعاطي مع المناظر والأشياء والعلاقات، ورسم خرائط للبشر والأمكنة، ووصف تفاصيل الحياة اليومية والواقع المصري بكل ما يحمله من عفوية وتناقضات وروح طازجة قادرة على التسلح بالدعابة في أصعب الأزمات.

يستوحي ليسي، المتخصص في التصوير والماريونيت (الدمى المتحركة)، نظريات البوب آرت الحديثة التي ترى الفضاء مستودعًا للأفكار والتنبؤ والحدس والاستشراف والاستشفاف من خلال المشاعر والعواطف، لكشف ما يدور في أعماق النفس والطبقات الداخلية للإنسان، بحيث لا يكتفي التصوير بالتقاط الأسطح الخارجية، والملامح الظاهرية، وإنما يهتم أكثر بكشف الجوانيات، وتلمس الجوهر، وبلوغ الحقيقة والماهيّة. وتجسد لوحاته تجليات البوب آرت كفن زاخم مساير للعصر، قائم على المزج بين الوسائل البصرية المتنوعة المتواكبة مع حركة الجماهير في الشارع خلال الثورات والاحتجاجات وغيرها، ومع روافد الثقافة الشعبية ومنابعها المختلفة، من دون إخلال بمنظور الفنون التشكيلية، فالفن من هذا المنطلق تحرر وشمول، ودعوة لتخلص الكائنات والمواد من سياقها، لتقترح صورها الخاصة من خلال الفنان، وكأنها تقدم ذاتها بذاتها.

يقدم ليسي رؤيته البصرية المركبة، مرتكزًا على مجموعة من الصور الفوتوغرافية للبشر والأمكنة ولأحداث ومناسبات اجتماعية مختلفة، ومن خلال هذا الأرشيف الشخصي للاحتفالات والمقاهي والأسواق وغيرها من المشاهد، يعيد الفنان إنتاج هذه الصور الفوتوغرافية على هيئة لوحات تصويرية وفق فلسفة البوب آرت، لتشكل في تجاورها وتحاورها وتتابعها سيرة بشرية للمكان الشعبي، وسيرة مكانية للبشر من العاديين والبسطاء في حركتهم وتنقلاتهم وأنشطتهم النهارية، وسهرهم الليلي.



وتشكل البكارة والطزاجة والألفة والمحبة والحميمية، والقدرة على مواجهة المشكلات والتحديات بالابتسامة وبالتهكم والسخرية اللاذعة، مفاتيح قراءة أعمال ليسي، التي تأتي كاشفة مقوّمات الشخصية المصرية، وعناصرها الأصيلة، التي إن توارت قليلًا خلف أتربة العصر وملوثاته، فإنها تبقى كامنة خلف الحجب. وتمثل هذه الأرواح الصافية خزانًا عملاقًا يستلهم منه الفنان حكاياته عن المكان وما يدور فيه، وينسج دراما سردية من خلال الشخوص المتحركة الفاعلة، التي يصورها بأسلوب قصصي، وبملامح معبرة، فيها الكثير من سمات الكوميكس، وبدون تعليقات أو عبارات مصاحبة.

وشأن المفاهيم العامة التي تقتضيها أبجديات البوب آرت، يطلق ليسي العنان للخيال الفني للتحليق عاليًا في تجسيد ملامح الحياة والبشر والأحداث بمواصفات مغايرة، فالفن هنا هو ملامسة المواقف والمشاهد وحكيها من وجهة نظر ذاتية أكثر منه منظومة حسابات للتعامل مع هذه المفردات وتقنينها، ويحقق الانفلات الكامل مراده بمغازلة الخيال الشعبي، والإيحاء للمتلقي بأنه يطالع نفسه في مرآة، لكنها ليست مرآة مستوية بطبيعة الحال، فهناك ما يجري تضخيمه، وهناك ما يجري تقليصه، وربما حذفه، ومن هذه المبالغات والمفارقات تتولد روح السخرية والتهكم وأجواء المرح.

وينقل الفنان عبر وسائط الفكاهة بانوراما كاملة لصورة الحي الشعبي القاهري بأناسه (الذكور، الإناث، الأطفال) وأحداثه ومعالمه، محققًا شروط الحياة بالطريقة التي يختارها هو، طارحًا التساؤلات الدارجة المقترنة بالحياة اليومية (العمل، كسب العيش، العلاقة مع الآخر، الخ) بوسائل سهلة في مجملها، متحررة من الجدية، لكنها عميقة في الآن ذاته، تلخص مكابدات الإنسان ومعاناته، وتصوراته ومدركاته وعلاقته بالعالم، وفق فلسفة البوب آرت وثيماته الرشيقة الشيقة.

وفي تجربة أخرى فريدة، تمزج الفنانة وفاء ياديس آليات "البوب آرت" بتقنيات "الآرت سيكولوجي" أو علم نفس الفن، حيث يصير للإبداع وجه علاجي إلى جانب الوجه الجمالي، وقدمت في هذا المجال مجموعات متنوعة، منها "بوب بورتريه: انفعالات لونية سيكولوجية"، "موجات هدوء"، "شمس"، "ما وراء الجسد"، "أشجار طفولية"، "حالات قمرية"، وغيرها. وتتسم لوحات الفنانة بطبيعة تجريدية، لتتناسب مع الانطلاقات الحرة للإنسان، في تعبيره عن جوانياته ومشاعره المتباينة من دون قيود صارمة أو أطر حاكمة. كما تنفتح الأعمال على الميتافيزيقا أو الماورائيات (ما وراء الطبيعة) كفلسفة تنشد حقيقة العلاقات والموجودات وجوهر الظواهر والأشياء.

ومن خلال البوب الغرافيكي، تغوص ياديس في الحالات النفسية والانفعالات الوجدانية للبشر، لتكشف انعكاسات الإحباطات والإخفاقات المتتالية في الواقع المصري على الوجوه المنكسرة والقلوب المجروحة، فالهزّات السيكولوجية الفردية ما هي إلا ترجمات لسقطات مجتمعية عامة، والتجريف الذي حدث للإنسان هو ذاته التجريف الذي اعترى الأرض.

وتتوالى تجارب فناني البوب آرت، وتتنوع، معبّرة عن الأوضاع الكائنة بطرافة وسخرية، فيقدم أمير وهيب تصورات بالغة الخصوصية، تتداخل فيها المسمّيات الحسية، والمعنوية، ويتقاطع الملموس والمجرد. فهو في اقتحامه عوالم السجون والمنافي بضربات فرشاته الهادرة وألوانه القاتمة ومتاهات خطوطه وظلاله، يقرن بين الحبس الحقيقي، والنفي خارج الأوطان من جهة، والعزلة النفسية، والوحدة، والاغتراب في الذات، والتشرذم، من جهة أخرى.

وفي لوحاته حول السجن، ثمة خواء وشحوب وإظلام، وجدر مصمتة، وقطع للصلات مع الآخرين وإن كان وسطهم. هذه الحيرة، هي صمت الإنسان المطبق في غياب المنافذ، وحتى إن حضر "الباب الأخير"، عنوان إحدى لوحاته، فإن فهذا المَخْرج المأمول، ليس سوى ومضة من ومضات السراب الكاذبة في مشوار العبث والهلاك، فالأمكنة في محصلتها تكاد تكون مجرد محطات وصول وهمية.

ويمضي الفنانون في تفجير قضايا اجتماعية وإنسانية بروح السخرية وتقنيات الكاريكاتير وأبجدياته التعبيرية للغوص في الأعماق وتعرية الذات ولمس المشكلات الكامنة تحت السطح، كما في متوالية أحمد صبري "التليفزيون إلى الأبد"، وفيها يستلهم جيوش الصور المرئية المتحركة عبر الشاشات لتجسيد أزمات الإنسان المعاصر المتعرض للاستلاب والغزو الفضائي والنفي إلى عوالم افتراضية خارج الواقع المعيش، وتحفل أعمال الفنان بما يشبه قصص الكوميكس، من دون تعليق. 



وفي سياق مشابه، تأتي تجربة  "أنا تخين" لإيهاب الطوخي، للتندر على البدانة، كمرآة لثقل المجتمع وتباطؤ حركته، و"حديقة الممسوخين الترفيهية" لأحمد صبري، كديستوبيا تشكيلية تسرد حكاية مدينة فاسدة مخيفة ومجتمع متدهور وبشر متجردين من إنسانيتهم، و"خيال المآتة" لدينا حسام، لاستلهام "فزّاعة الحقل" كرمز للفشل والشكلانية والفراغ من المحتوى. وكذلك تأتي مجموعتا " لحظات"، لهنا السجيني، و"فرق توقيت" لشعبان الحسيني، ويتجلى فيهما تلاشي الزمن دون جدوى، ومرور سفينة العمر إلى محطتها الأخيرة، حيث لم يترك الواقع الكابوسي للإنسان شيئًا من إنسانيته.

وتتكئ تجربة الفنان المخضرم سمير فؤاد (77 عامًا) على البوب آرت في سلسلة معارضه المتتالية، حيث ينحدر بخفة إلى جذور الظواهر وأصول الأشياء والعلاقات، ويتقصى بلاغة الحركة وفلسفة الزمن ومتغيرات البيئة، مطلًّا على توجّسات البشر وتفاصيل الشارع المصري، ومفجّرًا المآسي والصرخات الشعبية إلى جانب المسكوت عنه في الدراما اليومية المؤلمة، التي لا تتوقف حلقاتها.

ويلتقط الفنان ببراعة متاهات الواقع المصري، معبّرًا بكوميديا البوب آرت عن معالم التشظي والانسلاخ والمعاناة بسبب طغيان القيم المادية والإعلانات الاستهلاكية ("الشيخ الشريب.. ماركة مسجّلة"، "ريفو.. يزيل الآلام بسرعة وأمان")، ويسرد بروح مرحة تداعيات ذلك الانخراط في معترك التسليع وقيود السوق وقوانين العبودية والتبعية، ما قتل فكرة الحرية تمامًا في الضمائر الحية، وحوّل الحياة الطلقة إلى مقبرة عابسة. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها