الأربعاء 2021/07/21

آخر تحديث: 13:25 (بيروت)

تضحية إبراهيم في فنون الكتاب الإسلامية

الأربعاء 2021/07/21
increase حجم الخط decrease
يظهر مشهد تضحية إبراهيم في مجموعة كبيرة من المنمنمات الإسلامية. تختلف نماذج التأليف المتبعة بين منمنمة ومنمنمة، إلا أن المشهد يبقى واحداً لا يتغير. أبطال الحدث ثلاثة، إبراهيم وإسماعيل وجبريل. يظهر الخليل بعمامة بيضاء كبيرة هي في المصطلح الشائع "تاج الإسلام"، ويهم بالإجهاز على ابنه بالسكين، إلا أن الملاك يأتي إليه ليوقفه حاملاً بين يديه كبشاً عظيماً.

يأتي ذكر تضحية إبراهيم بابنه بصورة موجزة في بضع آيات من سورة الصافات (100-110)، شكّلت أساساً لسيرة مطوّلة للنبي مفعمة بالأسماء والحوادث، ووجدت هذه الحكايات صيغتها التشكيلية في الكتب المزوقة بالصور التي خرجت من المحترفات التي أنشأها كبار السلاطين والملوك والأمراء على مرّ الأزمنة. المنمنمات التي يظهر فيها إبراهيم الخليل عديدة، ويُظهر التمعّن فيها بروز موضوعين أساسيين، هما تجربة المحرقة وتقدمة الذبيحة، حيث تناوب الرسامون على معالجة هذين الحدثين وفقاً للأساليب والطرق المتبعة في المحترفات المركزيّة.

أقدم ما وصلنا من المنمنمات التي تصور تضحية ابراهيم يعود إلى زمن الدولة التيمورية في القرن الخامس عشر. أسّس تيمورلنك هذه الدولة التي حكمت بلاد ما وراء بين النهرين في آسيا الوسطى، وامتدت وشملت وإيران والعراق وشرق الأناضول شمال الهند، وكان مقرها سمرقند ثم هراة، وقد عاشت آخر أمجادها في عهد حسين بايقرا الذي جعل هراة مركزاً من مراكز الثقافة الإسلامية في العقود الأخيرة من القرن الخامس عشر. ازدهر فن الكتاب في زمن التيموريين، وتميّز بأسلوب رفيع شكّل أساساً للأسلوب الفارسي الذي بلغ القمة في المرحلة اللاحقة.

يظهر مشهد تضحية ابراهيم في واحدة من المنمنمات الثماني والثلاثين التي تزيّن مخطوطاً تيمورياً أنجز في شيراز عام 1410، وهو محفوظ في مؤسسة غولبنكيان في لشبونة، وهذا المخطوط نسخة ممّا يُعرف بـ"مجموعة اسكندر سلطان"، وهي مختارات أدبية جُمعت بطلب من الحاكم التيموري الذي يحمل هذا الاسم، والذي عُرف بشغفه بالفن والأدب. تُعتبر هذه المنمنمة أقدم صورة معروفة لتضحية إبراهيم في الكتاب الإسلامي، وفيها يظهر إبراهيم وهو يهمّ بذبح ابنه المعصوب العينين، بينما يقف ملاك في مواجهته باسطاً ذراعيه في اتجاهه، ويظهر تحت قدمي هذا الملاك كبش أبيض يتقدم في اتجاه الابن. في القسم الأعلى من التأليف، يبرز أربعة ملائكة من خلف السحب الذهبية التي تملأ الفضاء، وهم هنا شهود هذا الحدث العظيم.

يتكرّر هذا المشهد في ثلاث منمنمات تيمورية، أولاها منمنمة تزين مخطوط "كليات التاريخ" لحافظ أبرو، ومصدره بحسب المختصين بغداد، وهو محفوظ في قصر توبكابي في إسطنبول. وثانيتها منمنمة تعود إلى نسخة من "مجامع التاريخ" للمؤلف نفسه، محفوظة في متحف والترز في بالتيمور. أما الثالثة، فقد وصلت بشكل مستقل، وهي كذلك من محفوظات قصر توبكابي، وفيها يظهر إسماعيل من دون عصبة تلف عينيه، ويظهر إبراهيم وهو يدير وجه إلى الخلف، محدّقا في اتجاه الملاك الذي يتّقدم منه حاملا كبش الفداء.

قيل في هذا الحدث الكثير من الروايات التي تسقط عليه أبعاداً درامية قاسية، ويتكرر صدى هذه الروايات في المنمنمات التي تجسّد هذا المشهد. في رواية نقلها الطبري، قال إسماعيل لأبيه حين همّ بذبحه: "يا أبت إن أردت ذبحي فاشدد رباطي كي لا يصيبك مني شيء فينقص أجري، إن الموت شديد وإني لا آمن أن اضطرب عنده إذا وجدت مسّه، واشحذ شفرتك حتى تجهز عليّ فتريحني، وإذا أنت أضجعتني لتذبحني فكبني لوجهي على جبيني ولا تضجعني لشقي، فإني أخشى إن أنت نظرت في وجهي أن تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله". أوثق إبراهيم ابنه ثم تله للجبين وأدخل الشفرة لحلقه فقلبها الله لقفاها في يده. ونودي إبراهيم: "قد صدقت الرؤيا. هذه ذبيحتك فداء لابنك، فاذبحها دونه يقول الله عز وجل". يحلّ الملاك ليوقف النبي، حاملاً بين يديه كبشاً عظيماً، والملاك هو بحسب الرواية التي تناقلها العلماء جبريل، والكبش الذي يحمله هو الكبش الذي قرّبه هابيل بن آدم. وقيل إنه كان "أبيض أقرن أعين"، وإنه رعى في الجنة أربعين سنة. وقيل إنه كان بمنىً في المنحر. وقيل أُهبط من ثيبر. وقيل إن رأسه علّق بقرنيه في ميزاب الكعبة.

زمن الصفويين والعثمانيين
يتكرّر هذا المشهد في القرن السادس عشر، ويبز في مجموعتين من المخطوطات، أولاهما مجموعة "قصص الأنبياء"، وثانيتهما مجموعة "حديقة السعداء". في أوائل أيام العباسيين، عهد الخليفة العباسي إلى محمد بن إسحاق بتربية ابنه المهدي، وقال له: "اذهب فصنّف له كتاباً منذ خلق اللّه آدم عليه السلام إلى يومنا هذا". وضع ابن إسحاق الكتاب وسمّاه "المبتدأ والمبعث والمغازي"، وقد جمع في القسم الأول قصص آدم وما كان بعده من أخبار الأنبياء والرسل على ترتيب ذكرهم في التوراة، وخصص القسم الثاني لسيرة النبي من المولد حتى السنة الأولى للهجرة، وأكمل هذه السيرة النبوية في القسم الثالث من كتابه. شكّل "المبتدأ في قصص الأنبياء" بداية لسلسلة من المصنفات التي جمعها كبار المؤرخين من العرب والعجم والترك على مدى قرون من الزمن. تحوّل رسم "قصص الأنبياء" إلى تقليد في القرن السادس عشر، وبلغ القمة الفنية في زمن الصفويين والعثمانيين، كما تشهد المخطوطات المزوقة المحفوظة في كبرى المكتبات العالمية. في القسم الأكبر من هذه المخطوطات، يتكرر مشهد تضحية إبراهيم في صور تجمع بين ابراهيم وإسماعيل وجبريل، ويظهر في بعض منها ابليس وهو يتابع المشهد.

بحسب الروايات التي جمعها الثعلبي في "عرائس المجالس"، رُوي أن إبراهيم لمَّا أُمر بذبح ابنه، "عرض له إبليس عند المشعر الحرام فسابقه فسبقه إبراهيم. ثم ذهب إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم كان ذلك عند الجمرة الوسطى وعند الجمرة الكبرى". وقيل إنه تعرض لإسماعيل في صورة شيخ، "فقال له: إلى أين تمضي يا إسماعيل قال: مع أبي يقرب قربانًا إلى الله تعالى. فقال إبليس: أتدري ما القربان الذي يقربه أبوك، قال: لا. قال: إنه يريد أن يذبحك وقد جئتك ناصحًا. فعرفه إسماعيل: فقال له: يا إبليس، أيفعل هذا أبي من قبل نفسه أم بأمر ربه؟ فقال إبليس: بل بأمر ربه. فقال إسماعيل: إذا كان الذبح بأمر ربه فكيف أعصي ذلك. فرجع إبليس خائبًا، فكان كلما اتبع إسماعيل يرقبه بالحصى، فصار من يومئذ رمي الجمار سنّة".

يحضر مشهد تضحية إبراهيم في نسخ "قصص الأنبياء" المزوّقة، كما يحضر في نسخ منظومة "حديقة السعداء". ألّف الشاعر فضولي البغدادي هذه المنظومة باللغة الأذرية (الأذربيجانية) في القرن السادس عشر، وفيها استعاد منظومة "روضة الشهداء" التي وضعها الملّا حسين واعظ الكاشفي بالفارسية في زمنه قبل أكثر من عقدين، وجعل كتابه في عشرة أبواب، وختمه بالحديث عن مصائب الأنبياء وسبي العترة الطاهرة. انتشرت هذه المنظومة انتشارا عظيما، كما يُستدل من العدد الكبير من المخطوطات التي وصلتنا منها، وظهرت فيها صور تضحية إبراهيم في الجزء الخاص بمصائب الأنبياء. في هذه المنمنمات، يلتف من حول إبراهيم عدد من الملائكة وفقاً لتأليف غالباً ما اعتمده الرسامون في تصوير إسراء الرسول، ويحضر بينهم جبريل وهو يحمل كبش الفداء.

زبدة التواريخ
إلى جانب هاتين المجموعتين من المخطوطات، يظهر مشهد تضحية إبراهيم في عدد من المخطوطات يصعب احصاؤها، منها "روضة الصفا" للمير خوند، وكتاب الفال (فالنامه) الذي راج في الأوساط الصفوية والعثمانية، و"زبدة التواريخ" للمؤرخ سيد لقمان عاشوري الذي عمل في بلاط السلطان مراد الثالث. يحضر مشهد تضحية إبراهيم في نسخة من "زبدة التواريخ" تعود إلى 1573، وهي من محفوظات مكتبة شاستر بيتي في دبلن. كما تحضر في نسخة أخرى تعود إلى 1583، وهي من محفوظات سرايا توبكابي.

في المنمنمة الأولى، يظهر إبراهيم بعمامته الأليفة جاثياً على ركبتيه خلف ولده، فيما يطلّ جبريل من وراء الجبل الأمامي حاملاً كبش الجنّة. لا تقتصر الصورة على هذا المشهد، فقد صوّر الرسام خليل الله مرّة ثانية في الجزء الأسفل من المنمنمة وسط مفردة زخرفية عثمانية أحاطها بسلسلة من الألسن النارية. عن اليمين، يطلّ الملك النمرود أمام قصره وهو ينظر عاجزاً إلى عدوّه وعدوّ آلهته. في المقابل، يبدو إبراهيم ثابتاً في صلاته بعد أن أنزل الله عليه الهدوء والسكينة. في المنمنمة الثانية، يظهر النبي وسط النار في القسم الأعلى، ويظهر منتصبا أمام ابنه في القسم الأسفل. يغيب جبريل، ويحضر الكبش وهو يخرج من خلف شجرة مورقة. هنا وهناك، يتجلّى إبراهيم في مشهدين لا يفصل بينهما فاصل، ويبدو في كل منهما منيبا إلى الله، مستجيباً لدعوته، حامداً لأنعمه.

ابتلى الله إبراهيم بذبح ولده في رؤيا رآها، و"رؤيا الأنبياء وحي" كما رُوي عن ابن عباس. أقبل الخليل على ابنه يقبله بعد أن ربطه، ثم وضع السكين على حلقه، فنودي: "أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. إنا كذلك نجزي المحسنين" (الصافات 105-104). وجد النبي أمامه جبريل ومعه كبش عظيم القرنين، "فكبّر جبريل والكبش، وإبراهيم وابنه"، كما نقل الزمخشري في "الكشاف".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها