الجمعة 2021/07/02

آخر تحديث: 17:56 (بيروت)

السياحة العسكرية اللبنانية: خبر حلو

الجمعة 2021/07/02
السياحة العسكرية اللبنانية: خبر حلو
طوافات Raven التي أعلن الجيش اللبناني تسييرها في جولات للسياح (غيتي)
increase حجم الخط decrease

لا جديد ولا استثناء مستهجَناً في الخطوة السياحية التي أقدم عليها الجيش اللبناني. ولولا الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تفتك باللبنانيين جميعاً، والعسكر منهم، لا شيء مأسوياً أيضاً، ولا مُهيناً. فإعلان قيادة الجيش عن جولات "لبنان من فوق" للسياح على متن طوافة عسكرية، مقابل 150 دولاراً للجولة، تُدفع نقداً، إضافة إلى تجديد التسويق لخدمات التدريب في نادي الجيش اللبناني للرماية، لَيس فيهما، من حيث المبدأ، ما يُشين أو ما يُنذر بانهيار وتداعٍ. بل على العكس. فأقوى دول العالم وأكثرها ازدهاراً، لا سيما على مستوى السياحة، تستثمر بحماسة في ما بات له تسمية متداولة: "السياحة العسكرية".

حتى إن السياحة هذه، باتت ممارسة معترفاً بها ومدروسة سوسيولوجياً وانتروبولوجياً، وتُصنّف في شقّين: ذلك المعتمد على الاحتكاك المباشر بالعتاد العسكري، وهو الجزء المنطوي على الإثارة الصافية، والسعي إلى تجارب من قبيل الرياضات القصوى ذات جرعات الأدرينالين فائقة النشوة. وهناك الجزء التثقيفي/الثقافي المعتمد على "المنتجات التاريخية" العسكرية والحربية، بما في ذلك ما توفّره المتاحف لزوارها (العتاد الذي استخدم في حروب شهيرة، الزيّ، الآليات، الأسلحة، وثائق، صُور،...)، وكذلك المواقع العسكرية بجديدها وقديمها، ومقابر الجنرالات والجنود المجهولين، إضافة إلى استعراض الإمكانات التكنولوجية، وصولاً أحياناً إلى تنظيم لقاءات مع قدامى المحاربين. وقلما تخلو مكتبة تجارية أو أكاديمية من بحوث تستقرئ، مثلاً، آثار الكولونيالية وما بعدها، والنازية والفاشية وغيرها، في متاحف أوروبية، للحربين العالميتين ولتواريخ استعمارية، بين التباهي بماضٍ قوي ومهيمن وربما مستمر في الحاضر بشكل "ناعم"، وبين فعل الندامة والنهج الاعتذاري وإعادة قراءة تلك المحطات التاريخية بما يكفّر عن "الذنوب" من دون إلغاء الوقائع أو الخجل بمسارات تاريخية لدول وشعوب.

مَربَط الطوافة
العرض السياحي الذي يضطلع به الجيش اللبناني اليوم، والمندرج على الأرجح ضمن الصنف الأول من السياحة العسكرية، تقوم بمثله وأكثر، دول مثل الولايات المتحدة وكندا، والعديد من الدول الأوروبية، إلى جانب الهند وتايلاند (حيث يمكن للسائحين العسكريين ارتداء الزي الرسمي، واستخدام الأسلحة في مواقع إطلاق النار، والتسجيل في رحلة على متن مروحية عسكرية إلى نصب خاو خور التذكاري الذي يضم أيضًا متحفًا للأسلحة، قبل نقلهم إلى ملاجئ حربية ومناطق عسكرية محددة حيث تستمتع العائلات الاستمتاع بأنشطة القفز بالحبال وركوب الدراجات الرباعية وركوب الخيل للأطفال). إنه العادي الجديد الذي لا ضير في ضخّه أرباحاً ساحية إضافية، تستفيد منه خزينة الدولة أو المؤسسة العسكرية نفسها، أسوة بسياحة الأكل والرياضة والثقافة والفنون، بل والاستشفاء والتعليم أيضاً.

لكن المفارقة، في الحالة اللبنانية، تكمن في مَربَط آخر للدبابة والطوافة والبندقية، أو لعلها مَرابط متعددة. ليس أقلها أن الجيش يعلن بوضوح معاناته من الضائقة المالية والاجتماعية، أسوة بالغالبية العظمى من المواطنين، والمعروف أن إيديولوجيته الأم ما كانت لتنتج مثل هذه الأفكار السياحية لولا اشتداد الخناق. هذه المعاناة المكللة باحتمالات تراجع إدائه في حفظ الحد الأدنى من الأمن، وضبط "الاستقرار" الداخلي والحدودي العام، مقلقة محلياً وإقليمياً ودولياً، لا سيما في ظل الأزمة الراهنة. ورغم المؤتمرات الأميركية والأوروبية التي انعقدت مؤخراً خصيصاً للبحث في سبل دعمه مالياً وعينياً، ورغم تاريخ مديد من التمويل والمساعدات الأميركية وسواها، وما يثيره ذلك كله من نقاش سياسي في لبنان، كما في أميركا وأوروبا والبلدان العربية الغنية حيث يتوجس البعض من دعم الجيش في بلد يسيطر عليه "حزب الله" المصنّف "إرهابياً" والمُعاقَب دولياً،... ما زالت المؤسسة العسكرية في حاجة إلى إيجاد مصادر تمويل ذاتي. وهي التي بات بعض جنودها يتخلفون عن الالتحاق بمواقع خدمتهم من دون إذن مسبق، فيما أعداد المستقيلين باتت تفوق المنتسبين الجدد. كما أنها المؤسسة التي لطالما شكّلت حلماً وظيفياً آمناً (بأثر من تقديماتها الاجتماعية وما تحظى به عموماً من احترام وتقدير شعبي) لخزان بشري هائل من اللبنانيين، لا سيما الأفقر، والذين لم يجدوا خبزهم في سوق العمل المحلي لأسباب مختلفة،.. فكم بالحري في كنف المحنة الحالية؟

جيوش وظِلال 
وبعد، من المفارقات أن الجيش ليس الكيان العسكري الوحيد في لبنان، سواء احتسبنا "جيش" حزب الله المُمأسس، أو عناصر الأجهزة الأمنية المختلفة، والتي لا تُخفى على أحد التبعية السياسية لكل منها وتحركها أحياناً وفقاً لولاءات لا علاقة لها بالهيكلية الرسمية. ناهيك عن شبيحة الأحزاب الذين لا تخلو أيديهم من سلاح، ولا تحركاتهم من بعض التنظيم. وأكثر... ليس الجيش الوطني هو الوحيد الذي يستعرض جنوده وعتاده، سواء في عيد الاستقلال، أو الآن في خطوة ريعية (ذكية وعملية ومفيدة هذه المرة). فمن "حزب الله" و"معلَم مليتا للسياحة الجهادية"، إلى العروض العسكرية السنوية للحزب نفسه وحركة "أمل"(عاشوراء ومناسبات أخرى)، و"الحزب السوري القومي الاجتماعي"(ذكرى تحرير الجنوب)، وحتى "القوات البنانية"(ذكرى اغتيال الرئيس بشير الجميل)... الهالة العسكرية، منتجات القوة والدفاع، الحزم والأمان، العقيدة الوطنية والقتالية، كلها تبدو، والحال هذه، صوراً مهزوزة كثيرة الظِّلال. وبالتالي، تنكسر هنا الركيزة الأساس لما كان يمكنه أن يصبح صناعة الجيش اللبناني لسياحته، باعتبارها مبنية على نوع من احتكار الاعتزاز والمتانة (أسوة باحتكار الدولة للعنف والسلاح)، بما يستحق عرضه "للآخر" والتباهي به، بل والاستفادة منه كقطاع مُنتِج ودعائي ناجح.

أما التاريخ، والذي كان يمكن أن يكمّل ما بدأته مؤسسة الجيش اللبناني، ريعياً، فهنا تمسي المسألة أكثر تعقيداً. فإذا كانت السياحة الحربية ذات طبيعة سردية، فسردية الحرب اللبنانية غير محسومة رسمياً حتى الآن، بل محذوفة حتى من المناهج المدرسية وما زالت محل نزاع سياسي وشعبي وقضائي، ناهيك عن "قضاياها" الملتبسة وربما المخجلة. إضافة إلى أنها حرب مستمرة ومتفاقمة حتى اليوم أشكالاً وألواناً، وتجربة متحف "بيت بيروت" لم تستقطب مثلاً ما يستقطبه "معلَم مليتا" بالمعيار السياحي. هذا ولم نتطرق إلى "الحرب الباردة" اللاحقة المتمثلة في سلسلة الاغتيالات السياسية منذ الرئيس رفيق الحريري، وتفجيرات إجرامية الأرجح أن انفجار مرفأ بيروت لن يكون آخِرها ولا التصفيات بكواتم الصوت. وإذا كانت سياحة التجارب المثيرة، فالواقع المعزز "بالإثارة" على الأرض، وفي الزمن الحقيقي (real-time)، في محطات الوقود وعلى مفارق الطرق المفتوحة بالقوة بعد إقفالها احتجاجاً، يغلب التجربة المؤطرة وألعاب المحاكاة. ومع ذلك، تبقى لجولة "لبنان من فوق" متعتها وحماستها، على أمل نجاحها تجارياً، وأن تتم على علو كافٍ لطمس مشاهد تكدّس النفايات وطوابير البنزين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها