السبت 2021/07/17

آخر تحديث: 06:52 (بيروت)

تأريخ التعب

السبت 2021/07/17
تأريخ التعب
جورج فيغاريلو: بدايةً، كان التعب عبارة عن خلل في الامزجة، بما هي من سوائل الجسد
increase حجم الخط decrease
المهمة التي أخذها المؤرخ والسوسيولوغ جورج فيغاريلو على عاتقه ليست سهلة. فهو قرر في كتابه الجديد* تأريخ التعب، ليس إنطلاقاً من الحاضر، إنما من العصور الوسطى حتى اليوم. بالتالي، كان يتوجب عليه أن يطال بمبحثه فترات زمنية كثيرة، بحيث يفتش عن مقالب التعب خلالها. ولكن، رغم صعوبة المهمة تلك، فيغاريلو تمكن من تحقيقها بطريقة، يمكن وصفها بلا مبالغة، بالشيقة. إذ يقرأ كتابه كرواية عن التعب، عن تحول معناه، الذي يعني أمور كثيرة: تغير طريقة ادراكه، تغير تشخيصه، تغير عوارضه، تغير أشكال التعبير عنه. بالإضافة إلى ذلك، سرد ذلك التحول يساوي سرد حكايات الأجساد، وانماط وجودها، وممارساتها الصحية، عدا عن بناها الاجتماعية، وشغلها، وحربها، ورياضتها، وتشييدها النفسي. على هذا النحو، حين يؤرخ فيغارولو للتعب فهو يتيح الوقوف على كل هذا، قبل أن ينتهي به المطاف إلى الوقت الحالي، حيث يجد ان موضوعه، اي التعب نفسه، قد صار على طرز رقمي.


يمكن اختصار بعض مآلات التعب بحسبما سجلها فيغاريلو. ففي العصر الوسيط، كان ثمة نوع من الهرمية في تقييم التعب. إذ إن تعب المحارب هو تعب مرفوع إلى مرتبة عالية، وهذا، ما يرتبط بالطبع بكون الحرب كان لها محل كبير من الحضارة آنذاك. من بعده، هناك تعب القداسة، ثم تعب السفر، ويلحقه تعب العمل. كل تعب يرتبط بقيمة محددة، مرة تطهيرية كما في وضع المشقة الإيمانية، ومرة اكتشافية كما في الطواف. أما، الجسد، فحين يكون تعباً، فهو لا يستحصل على نفس التقدير إن كان يعود لمحارب أو لمزارع. ففي الحالة الأولى، التعب علامة على كونه جسد صاحبه قد صُقل، اما، في الثانية، فالتعب على قران مع الصمت حوله، اي انه موضوع تعتيم لأنه يرتبط بالنشاط اليومي بما هو نشاط غير مهم. على أن التعب في العصر الكلاسيكي قد تغير في نتيجة زعزعة موقع المحارب من إعراب الحضارة، ليحل مكانه "صاحب البزة" بما هو الذي يعمل في الإدارة، مثلما هي حال شخصية المحامي الذي قدمها جان دو لا برويير. إذ أن تعبه ليس تعباً يأخذ على محمل الإعلاء من شأنه، بالعكس، هو يُأخذ على محمل اضماره، أو بالأحرى على محمل جعله ظرفاً للسكينة. كما لو أن صاحب البزة لا يريد لتعبه سوى أن يكون قليلاً، أما، وعندما يبرز عليه، فيكون إشارة له إلى أنه سينتقل الى الارتياح بعد قليل. هذا التعب، الذي كان، وبشكل من الاشكال، مرتبطا بالهدوء، قد تغير لاحقاً في القرن التاسع العشر، ومع تحول الإنتاج إلى أمر رئيس تحديداً. إذ إن تعب الأيدي العاملة كان شديداً، وبشكل خطر على الإنتاج ذاته. فشرع المسيطرون على أدوات الانتاج في البحث عن كيفيات قياسه، وضبطه لصالح دورات العمل واقتصادها. أما، في العصر الحديث، فالتعب صار غير مرئي، لا سيما انه ما عاد فيزيقياً بقدر ما صار معلوماتياً، كما أنه صار مقنعاً أيضاً.



بين حقبة واخرى، كان تفسير التعب يتبدل. فبدايةً، كان التعب عبارة عن خلل في الامزجة، بما هي من سوائل الجسد. فالاجساد التعبة هي التي تفقد سوائلها، ويصيبها اليباس. لاحقاً، في عصر الانوار، حلّت الشبكات بما هي انتظام الأعصاب محل السوائل، ليصير الجسد منها. بالتالي، غدا التعب كناية عن خللٍ في تلك الشبكات، كما غدا على علاقة مع احساسات أخرى، كالاحساس بالفراغ مثلاً. تقديم التعب على هذا النحو أدى إلى اختراع المنشطات. لاحقاً، ومع طغيان تصور عن الجسد بما هو ماكينة تشغلها طاقة، تحول التعب إلى كونه يرادف النقص في هذه الطاقة، أو إلى كونه يرادف انخفاضها. وهذا، لا سيما بسبب ان أجزاء منها هي أجزاء مهملة في الجسد، الذي لا بد له ان يتخلص منها. على هذا المنوال، صار التعب يحتاج إلى برامج "تركلج" (من réglage) كل طاقة الجسد لكي تؤدي إلى تخفيفه أو إزالته. أما، التعب الحديث فتعريفه رقمي بمعنى أنه، وفي إثر رقمنته، عبارة عن رسائل في داخل الجسد، تنطوي على إشارة إلى اتصالات أو انقطاعات عضوية، مثلما تحمل إلى الاسترخاء. فبعد ان كان التعب موضوع تقريظ في العصر الوسيط، صار الآن موضوعاً للإدارة، التي يقول جورج فيغاريلو انها صارت تسيطر عليه من باب سعيها الى السيطرة على كل ما يخص حميمية الأفراد واجسادهم.

*Histoire de la fatigue: Du Moyen âge à nos jours, Seuil. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها