بادئ ذي بدء، لمع اسم ماري شيحا حدّاد بين العامين 1933 و1940. بدأَت مسيرتها في الرسم العام 1920، وحصَّلَت بعض التدريبات الفنِّيَّة، خلال العامَين 1924 و1925، على يد الفنان الفرنسي كوبير الذي كان يمتلك مدرسةً للفن في بيروت. ثم اشتهرتْ برسم المناظرِ الطبيعة في لبنان ووجوه البدو (موضة في ذلك الزمن)، وحازت لقب "فنَّانة البدو". في العام 1930، أَصبحت رئيسةً لجمعيَّة الفنَّانين اللبنانيِّين. وفي العام 1933، دعاها السفير الفرنسي في لبنان، الكونت دي مارتِل، إلى إقامة معرضٍ لأعمالها الفنّيّة في باريس، فلبَّت الدعوة. كتبت عنها جريدة "دايلي ميل" اللندنيّة: "كأنّ لوحات هذه الفنّانة خميلة تكاد تنطق لو أعطيت قدرة النطق، أو انعكاسات ضوء، أو نماذج حيّة لبشر، وهي نماذج حاول فنّانونا دراستها طويلاً. انّ اللوحات تعكس سوريا بسمائها الغارقة في لون الشفق، وجبالها، وغابات صنوبرها العملاقة، وأشجار برتقالها، وغابات أرزها المترامية الأطراف التي غنّاها لامارتين". امّا جريدة "الباريسيّ الصغير" الفرنسيّة، فقد كتبت في 21 تشرين الأوّل من العام نفسه: "انّ مدام حدّاد تفرض شخصيّتها بفنّها الذي هو نسيج وحده، وتودع إحدى لوحاتها عواطف الحبّ للقرية ولبلدة عشقوت (قضاء كسروان)". بعد ذلك، أُقيم أَوَّلُ معرضٍ خاصٍّ بلوحاتها في غاليري جورج بِرنهايم في باريس، فاقتَنت الدولة الفرنسيَّة إحدى لوحاتها، وكانت تُمثِّلُ منظراً لجبلٍ في لبنان. كما عرضت أَعمالها الفنِّيَّة في لندن ونيويورك...
تروي ماري حدّاد حكاية لقائها بالدكتور داهش. فهي واحدة من ست بنات وصبيّين رًزق بهم أنطوان شيحا: لور (زوجة بشاره الخوري)، أليس (زوجة الماركيز دو فريج)، أديل (أمّ المليونير سامي شقير)، ماتيلدا (امّ بيار حدّاد وجدّة زوجة خليل الخوري). والصبيّان هما المرحومان ميشال شيحا، مؤسّس جريدة "لوجور"، وجوزف شيحا. وذكرت "اللواء" أنّ "الطفل الذي وضعته أندريه حدّاد، ابنة ماري حدّاد، في مستشفى رزق في محطّة النويري، هو الذي كان وسيلة التعارف بين آل الحدّاد وبين داهش... ووسيلة التعارف شيء من "خوارق" يسميها بعض الداهشيين " ظاهرات روحيّة مذهلة لغاية سماوية"(وهي "شعوذة وسحر" بتعبير الروائي الياس خوري)، قالت ماري حدّاد: "خرجنا ذات مرّة الى حديقة منزل الدكتور داهش في محطّة النويري... وهناك أمسك الدكتور داهش بعجوة حبّة مشمش، ووضعها على الأرض، وقال: "بحقّ الله أن تتحوّل هذه النواة الى شجرة مشمش مزهرة". ولم يكمل الدكتور داهش كلامه حتّى تحوّل الزهر الى ثمر. وعند ذلك أكلنا من أطيب ما ذقنا. وما زالت الشجرة قائمة في الحديقة حتّى هذا التاريخ!
قلنا بدهشة:
- هذا شيء عجيب!
قالت:
- لا تعجبوا للحقيقة... الشجرة موجودة أمامكم!
روت ماري حدّاد أنّها رسمت، ذات يوم، لوحة لمنظر طبيعي تظهر فيه شجرة وعليها عصفور مغرّد. ولمّا كانت قد سمعت بأنّ الدكتور داهش قد أنطق اللوحات الزيتيّة غير مرّة، فقد سألته أن يحضر لها العصفور الغرّيد من اللوحة. وإن هي الاّ لحظات حتّى دبّت الحياة في العصفور الغرّيد. فأخذته ماري حدّاد، وارتاح بين يديها. وقد بادرت، بعد ذلك، الى وضعه في قفص خاصّ عاش فيه سنتين...
في 28 آب 1944 اعتُديَ على داهش في منزله، وأكد مع أتباعه، أن الرئيس بشارة الخوري وزوجته لور شيحا الخوري وأخاها ميشال، هم وراء الاعتداء، وكان من نتيجة تلك الحملة على الداهشية أَن أُوقفَت ماري حدَّاد، وسُجنَت أَكثر من مرَّة، وزُجَّ بها في مستشفى المجانين المسمَّاة "العصفوريَّة" لتقضي فيه 73 يوماً. ويروج الداهشيون بأن داهش "منع اتباعه من اللجوء الى الارهاب"، ومصداق ذلك ما جاء في رسالته الى ماجدة، ويكتبونها ماجدا، ابنة ماري حداد التي قررت ان تقتل بشارة الخوري انتقاماً لداهش. فنهاها عن ذلك في رسالة موجهة إليها وقال فيها "أعود وأكرر عليك الوصية أن لا تقدمي على أي عمل ارهابي، لا أنت ولا أي اخ أو أخت داهشية" فانتحرت الماجدة احتجاجاً. وقيل الكثير بشأن هذا الانتحار، وكان سبباً من أسباب الهجوم على الداهشية، وأرسلت ماري حداد رسالة الى شقيقها تقول فيها: "إلى الدساس ميشال شيحا... إن أطهر فتاة في هذه الأرض انتحرت احتجاجاً على جرائمكم، لقد تآمرتم ضد رجل بريء حتى جعلتموه يذوق من العذاب جلجلة ثانية، وذلك طوال أشهر متعددة، وهو لا يزال الى الآن يتألم: فمن خيانة، الى سجن، الى ضرب، الى جوع، الى عطش، الى عذابات نفسية وجسدية، وهو بدون ملجأ ووطن، مطارَد في كل مكان، بينما والدة تتلهف، وأخت تتعذب (أي أم داهش وأخته) واصدقاء يتألمون ويلومون انفسهم لأنهم لم يعملوا شيئاً لأجله ضدكم. إن تلك الفتاة العزيزة أعطتهم أمثولة العظمة والبطولة. فأنتم إذن سبب موتها...".
ويكتب داهشيون في أكثر من موضع "ماري حدَّاد... وحسبُكِ في هذا النضال أن تكوني إميل زولا"، وهم يبالغون في نشر هذا التشبيه، استناداً الى ما ذكره الصحافيُّ السوريّ، جبران مسُّوح، صاحب جريدة "المُختصَر" الصادرة في بوينس آيريس في الأَرجنتين، في رسالةٍ بعث بها إليها، في معرض دفاعه عنها، فقال: "الحادثُ بجُملته شبيهٌ بحادث دريفوس في تاريخ فرنسا. وحسبُكِ في هذا النضال أَن تكوني إميل زولا. لكنْ لا بأس يا ماري. وعلينا أَن نُوقظ هذه الأُمَّة لإنقاذ ضميرها من الهلاك!".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها