الخميس 2021/07/15

آخر تحديث: 13:56 (بيروت)

"البحر أمامكم" لإيلي داغر.. بيروت القاتلة والقتيلة

الخميس 2021/07/15
increase حجم الخط decrease
في العام 2015، فاز إيلي داغر (1985) بجائزة السعفة الذهب لمهرجان "كان" السينمائي عن فيلمه القصير"موج 98"، حكايته عن بيروت في التسعينيات، قصة مراهق يعيش في الضاحية الشمالية لبيروت وخيبة أمله في مدينته ومحيطه الاجتماعي. فيلمه الطويل الأول "البحر أمامكم"، يبدو استكمالاً للفيلم السابق، إنما بكثير من الحزن والكآبة والاشتغال السينمائي.

تعود جنى (منال عيسى) إلى لبنان، من دون سابق إنذار، تاركة وراءها تجربة سيئة بعد أربعة أعوام دراسة أمضتها في باريس. العودة لما يفترض أنه "البيت"، ينطلق منها تجوال وجودي للبحث عما يمكن قبضه لتأكيد وجود شخصي، ماضيها وتاريخها، وبالأخصّ مستقبلها في هذه البلاد. الرجوع إلى لبنان من دون ترتيب يطلق عقال أسئلة أبوية تبحث عن تفسيرات وتفاصيل، ليزداد الضغط على شابّة تحاول التخفّف من ثقل العائلة وتدبيج الإجابات المريحة، فيما يستحوذ عليها شعور خانق بالعلوق ومراوحة المكان حين التفكير في حياتها. بحرٌ مضطرب من المشاعر والأفكار تواجهه جنى، العائدة إلى مدينتها القديمة/الغريبة، بانكفاء ذاتي وهجرة إلى الداخل سعياً خلف إصلاح ما لا يمكن إصلاحه.

بدأ داغر كتابة سيناريو الفيلم في العام 2015، العام الذي تصدّرت فيه أزمة النفايات في لبنان عناوين الصحف الدولية وأطلقت تظاهرات في أنحاء العاصمة. منذ ذلك الحين، شهدت البلاد ثورة وأزمات سياسية واقتصادية ووباء، وأحد أكبر التفجيرات غير النووية في التاريخ. كل هذه الأحداث أثرّت في صناعة الفيلم، والآن حين مشاهدته لا يسع المتفرج إلا استشعار ذلك التأثير الكارثي والرهيب على قصّته وما تستبطنه من مشاعر متباينة وغامضة، في عملية انصهار أشبه بما يفعله الفيلم نفسه من مزج الواقعي بالمحلوم على مستوى السرد، أو ببسطه التعقيد الإنساني على شريط سينمائي يحوي المتناقضات والأضداد.


تنعكس فلسفة داغر وتجربته الشخصية في أعماله الفنية، هو الذي أمضى أيضاً سنوات في الخارج، حيث عاش في بلجيكا وبرلين ودرس للحصول على درجة الماجستير في نظرية الفن المعاصر ووسائل الإعلام الجديدة في مدرسة للفنون بلندن. لذلك، فإن إعادة الاتصال ببيروت ومحاولة فهمها أمرٌ عاشه داغر طوال معظم حياته. أطروحته التي قدّمها في لندن، اختارها لتركّز على العلاقة بين التاريخ والذاكرة والأرشيف في بناء الهوية، وما تناوُله لاغتراب الشباب اللبناني في فيلميه، سوى امتداد لعمله على تيمات الهجرة والهوية ودورهما في سيادة شعور بالانفصال عند لبنانيين لا يستطيعون ضبط معادلة وجودهم وفقاً لمعطيات ظالمة وفاسدة في أغلب الأحيان.

ماذا يمكن أن يحدث للمرء في مواجهة جدران مانعة لا سبيل لتسلّقها أو اختراقها؟ الفساد، كورونا، الانهيار الاقتصادي، الاستعصاء السياسي.. كلها أسماء لبعض الجدران، تسبقها وتليها خسائر شخصية ونزيف وطني وانسداد أفق لا يبشّر بخير ولا يؤذن بتفاؤل. لذا تغدو الكآبة المغيّمة على وقائع الفيلم وشخصياته، أكثر من مفهومة، حتى وإن بدا الفيلم ذاتياً جداً ولم يأت على ذكر أي من هذا كله. منذ المشهد الأول، تواجهنا بيروت غائمة وباردة يغلّفها الضباب، مستدعية أجواء المدن في ثلاثية مايكل أنجلو أنطونيوني الحداثية في الستينيات. الكآبة العنيدة التي تعانيها جنى تردّنا إلى انسحاب آثار الحياة من شوارع أنطونيوني، ويغدو العالم الذي كان مألوفاً، غريباً وغير مفهوم ولا يمكن التعرّف عليه. يأخذ داغر كامل وقته في تشييد مزاج فيلمه ودعمه بصرياً (شادي شعبان) وصوتياً (رنا عيد)، غير أنه في بعض الأحيان، خصوصاً في ثلثه الأخير، يستعمره تيه شخصياته، فيشابههم، ويغترب بدوره، في خضم إكماله دائرة علوق وتيه جيل بيروتي ولبناني شاب يتعيّن عليه اختبار العيش في مدينته أثناء احتضارها.

يُبني الفيلم على أكثر من سياق سردي، بداية من معاينة حاضر البطلة والمدينة المعلّق والمثقل برواسب ماضٍ صعب ومعقّد، وصولاً للاستنتاج الحزين بشأن المستقبل الغائم في بلدٍ منهك بحروبه وصراعاته وجنونه. وبين هذا وذاك، مركّبات فشل راسخة وجاهزة لوأد أي محاولة للتغيير وفتح النوافذ. تحاول جنى اجتراح طريق لعودتها وإعادة الاتصال بما كان وطناً، فيستقر بها الأمر إلى محاولات هروب لا تنجز وعودها. هربت عندما ذهبت إلى باريس، وهربت عندما عادت، وهربت مرة أخرى من خلال التواصل مع حياتها السابقة في بيروت. تطالع الكاميرا معمار بيروت المتنافر والمؤذي لتترجم إحساساً عميقاً بخيبة الأمل مما صارت إليه المدينة، وبدوره ينعكس الشعور على جنى، حتى أثناء تواصلها مع حبيبها القديم (روجيه عازار)، الذي تركته قبل سنوات للبحث عن مستقبل أكثر أماناً في باريس، ليتحوّل استكشافهما للحياة الليلية البيروتية صراعاً مكتوماً بين خيبة الأمل ومحاولة التحرّر من الوهم.

"البحر أمامكم" مرثية لبيروت في أسوأ أوقاتها، من دون قدرة على منعها من الذهاب إلى ما تُخشى عواقبه، أو وداعها بما يليق. عمل واقعي زاخر بالتجريب السينمائي، صرخة غاضبة يملؤها الحزن والجمال، انفجار أخير بديلاً لخلاص مستعصٍ، وتهويدة يائسة لجيلٍ لبناني تورّط في وجوده.

(*) عُرض الفيلم في مهرجان "كان" السينمائي ضمن قسم "نصف شهر المخرجين"، ويُنافس على جائزة "الكاميرا الذهبية" لأفضل عمل أول.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها