الإثنين 2021/07/12

آخر تحديث: 13:41 (بيروت)

السوريان الأخوان نعوم.. أول أوبرا في اسطنبول

الإثنين 2021/07/12
السوريان الأخوان نعوم.. أول أوبرا في اسطنبول
"ممر الزهور" في اسطنبول
increase حجم الخط decrease
غير بعيد من "ساحة تقسيم" في اسطنبول، وبالقرب من مدرسة غالاتا سراي، يتفرع من شارع الاستقلال ممر يلفت الانتباه بجمال التصاميم الهندسية التي تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر، وأكثر ما يستوقف العابر هو الاسم، "ممر الزهور"، والذي يعود مصدره إلى تحول المكان من مسرح أوبرا تاريخي إلى مكان لبيع الزهور النادرة في عشرينيات القرن العشرين.

وتحف بالممر مطاعم تقدم الأطعمة التركية التقليدية والأسماك التي تأتي طازجة من سوق الأسماك القريب. وكي تكتمل جولة الزائر في هذا الممر التاريخي، لا بد من تناول القهوة التي يتم تحضيرها على الطريقة العثمانية التقليدية. وأكثر ما يجذب عدداً كبيراً من زوار شارع تقسيم، والباحثين في تفرعاته، هو العمارة التي تأخذهم بعيداً من صخب الشارع العام، في رحلة البحث عن تفاصيل تاريخ بعيد يعود قروناً إلى الوراء، وهذا ما يجعل منه أيضاً مقصداً مثالياً لهواة التصوير الفوتوغرافي.

كل جولة هنا تحيلنا إلى سؤال المكان الأصلي، الذي هو عبارة عن مسرح أسسه السوريان الشقيقان ميخائيل وجوزيف نعوم، وحمل اسمهما (Naum Tiyatrosu)، وافتتح العام  1844 بعرض أوبرا Norma  لـVincenzo Bellini، التي سبق لها أن عرضت قبل أن تصل اسطنبول، على مسرح لاسكالا في ميلانو العام 1841 وأثارت صدى كبيراً. وهذا يعني أننا في حضرة ما بقي من مسرح أوبرالي، أو أول دار أوبرا مفتوحة في الهواء الطلق في اسطنبول، ويعود الفضل في إطلاقها للأخوين نعوم، وهي مؤلفة من خمسة طوابق. وبعدما لقي المسرح نجاحاً وارتادته نخبة ذلك الزمن المثقفة والمحبة للفن، استقبل عروض أوبرا لكبار كتّاب تلك الفترة، من أمثال جواكينو روسيني صاحب أوبرا حلاق اشبيلية الشهيرة، كما استضاف فرقاً مهمة ومشهورة من باريس وغيرها من العواصم التي عرفت فن الأوبرا حتى أصبح من أهم المراكز الثقافية في إسطنبول وأوروبا.

وازدهر مسرح الأخوين نعوم، مع حياة الانفتاح التي عرفها الشارع في حينه، واجتذبت سهراته طبقة من السكان، بما فيها السلاطين، ومنهم السلطانين عبد العزيز الأول (1830-1876) وعبد الحميد الثاني (1876-1909) قبل أن يقضي على المكان حريق بي أوغلو العام 1870، وبذلك خسرت المدينة دار الأوبرا الأولى. لكن المكان عاش حياة أخرى ذات أطوار مختلفة، وشهد تحولات كثيرة تبعاً للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها المدينة منذ ذلك الحين. وتتحدث كتابات صحافية أرَّخت للحيّ، أن مهندساً معمارياً إيطالياً (Cleanthy Zanno) أعاد تعمير الشارع على الطراز الباريسي، وأخذ الممر اسم Hristaki Passage، وسُمي المبنى باسم Cite de Pera، وبناه بشكل مسقوف على غرار سوق الحميدية في الشام، ومن ثم آلت ملكية الشارع إلى المصرفي اليوناني هريستاكي زوغرافوس أفندي وعُرف في ما بعد باسم غالاتا بانكيريز. ومن ثم اشترى المبنى في العام 1908 الصدر الأعظم (رئيس الوزراء في الدولة العثمانية) محمد سعيد باشا، وصار يعرف باسم "ممر سعيد باشا".



أصبح المكان مكتظاً بمحال الزهور بحلول سنوات الهدنة في الحرب العالمية الثانية العام 1940، وبدأ بائعو الزهور في الاستقرار في المتاجر الصغيرة في الممر، وارتادته على الخصوص النساء الروسيات البيض والبارونات والدوقات الفارات من ثورة أكتوبر 1917 والمهتمات ببيع الزهور، ولكن مع الزمن تحول الممر تدريجيا بعد افتتاح المطاعم والحانات، ولم يبق سوى الإسم ممر الزهور الذي يحمل اسم الشارع حتى اليوم.

وفي العام 1988 رممت الحكومة التركية ممر الزهور، ليعاد افتتاحه بصفته منطقة للمطاعم والمقاهي الراقية، إلى جانب الحفاظ على طابعه المميز؛ كونه ممراً للزهور، حيث لا يزال يوجد به أكثر من 24 محلاً للزهور، وفوق المحال توجد 14 شقة سكنية فخمة، لكن هذا المكان الأثري لم يستعد عافيته حتى التسعينيات من القرن الماضي عندما شهدت اسطنبول نهضة جديدة لعبت السياحة دوراً كبيراً فيها. ومن أهم عناصر القوة والجاذبية في المكان الموقع والعمران التاريخي، حيث بقي المسرح على حالته الأولى، وظلت التعديلات التي دخلت عليه ثانوية وفي سياق تحولات المدينة التي شهدت أطواراً متعددة من الحداثة التي لم تتمكن من تغيير هوية المكان الذي يشكل معلما ثقافيا من أهم ما تزخر به هذه المدينة وهذا الحي الذي صار اليوم معولما، بسبب اختيار الكثير من الأجانب الاقامة في وسط حارات "بي اوغلو" الأثرية، ولعب قربه من الفنادق التاريخية دورا في شهرته ومكانته التي تزداد مع الوقت.

وتبقى اسطنبول مدينة لموقع حي بي أوغلو على أحد التلال التي تتيح رؤية من زوايا مختلفة وحتى من زوايا غير متوقعة من الحي، ويواجه الذي يتجول في الحي طويلاً مفاجأة صور بانورامية للمدينة في كل من العصر العثماني والبيزنطي. ومن هذا التل يمكن مشاهدة شبه الجزيرة التاريخية مع قصر توبكابي (الباب العالي) وجامع آيا صوفيا وبرج غالاتا ومدخل مضيق البوسفور ومنطقة السليمية وثكنات كوزغونجوك على الشاطئ، وفي حال الطقس الجيد يمكن رؤية جزر الأميرات. وتقدم منطقة جيهانغير أيضًا إطلالة رائعة على منطقة أوسكودار في الجانب الآسيوي لمضيق البوسفور.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها