الأحد 2021/07/11

آخر تحديث: 08:32 (بيروت)

الادب كبديل عن الانتحار

الأحد 2021/07/11
الادب كبديل عن الانتحار
فان غوخ
increase حجم الخط decrease
 جاء في المقدّمة التي وضعها عيسى مخلوف لكتاب "فان غوغ مُنتَحِر المجتمع" لأنطونان أرْتو(*)، أنه في الثّاني من شهر شباط/ فبراير 1947، توجّه أنطونان أرْتو إلى متحف "أورانجوري" الباريسيّ(...). هناك، كانت تُعرَض أعمال فان غوغ (1853-1890). شاهد أرتو اللّوحات والرّسوم بعين نافذة(...). في الفترة نفسها، خصّصت مجلّة "فنون" مقالةً عن فان غوغ تحتوي على فقرات من دراسة تحمل توقيع الطّبيب فرانسوا-خواكيم بير، وفيها أنّ "هذا الفنّان النّابغة كان يعاني اضطرابات نفسيّة ازدادت حدّة مع مرور الوقت". مشاهدة أرتو المعرض وقراءته المقالة دفعتاه إلى الكتابة عن فان غوغ، وتقديم رؤية مغايرة إلى سيرته ونتاجه الفنّيّ. ولقد كتبَ انطلاقًا من تجربته الشّخصيّة، لأنّه جرّب المعاناة والعذاب أيضًا، وحاول أن يعالج الآلام التي رافقته طوال حياته بالأدوية والصّدمات الكهربائيّة والمخدّرات. كما أنّه عاش سنوات عدّة متنقّلًا بين مستشفيات الأمراض النّفسيّة ومصحّات خاصّة كانت الأخيرة في مدينة روديز الفرنسيّة. لذلك، بدا وهو يكتب عن فان غوغ أنّه ينظر إلى وجهه في المرآة ويكتب عن نفسه".

 كتبَ أرتو عن فان غوغ ليبرِّئه من الجنون وينتقد بشدّة علماء النّفس والمجتمع الّذي يحميهم، ويحمّله مسؤوليّة انتحار فان غوغ، وقبله جيرار دو نرفال. فنّد أرتو نعت فان غوخ بالجنون الذي أفضى به إلى قطع أذنه اليسرى ليهديها إلى إحدى المومسات، وحار المحللون النفسانيون والأطباء في تحديد طبيعة المرض الذي كان يعانيه، ومبينًا أن هؤلاء -عوض معالجته والتخفيف من معاناته النفسية- أسهموا أيضًا في تأزيم وضعيته، وحفزه على وضع حد لحياته. بالطبع كان فان غوغ حالة خاصة في الحياة والفن، وكذلك ارتو في المسرح والكتابة والرسم، كل كاتب له عالمه ويمكن تأويل مسيرته بطرق مختلفة، خصوصاً اذ كان الأمر يتعلق بالانتحار الذي يتحول قضية بتفسيرات كثيرة...


أبعد من تفسير أرْتو الانتحار وأسبابه وربط بالمجتمع، هناك الكثير من التجارب التي تربط الفن والادب بالانتحار، تعيدنا الذاكرة في هذا المجال إلى ملف بعنوان "الأدب والانتحار" أعدّته مجلة "مغازين ليترير" الفرنسية(**)، وهو ملف متخم بالتفسيرات والهوامش والتعبيرات التي قالها الفلاسفة والأدباء في تفسير الانتحار الأدبي وتأويله، نقرأ أن علاقة حميمة تربط بين الأدب والانتحار، فـ"علاقة الأدب بالموت علاقة تافهة"، أما علاقته بالانتحار فهي تتناول "البؤس من جهة والحرية من جهة اخرى"، تتوزع عمليات الانتحار بين ثيمات اذ جاز التعبير، من الانتحار الرومنطيقي في ألمانيا وفرنسا، إلى (السبلين) أو الكآبة السوداء الانكليزية، ومآسي النازية، إلى الاميركية وضحايا الكحول والأساطير، كأرنست همنغواي(مرّت الذكرى الستين لرحيله)، إلى الاشمئزاز من العالم الجديد، إلى الرغبة بالعمل المستحيل كالياباني اكوتكاوا، يحوم الموت الإرادي، كأنما الكاتب يحتاج، ليختم عمله، أن يضع حداً لحياته. وإذا كان انتحار بعض الأدباء والفنانين والمبدعين بشكل عام، ينتج عادة من أسباب شديدة الفردية ولا يمكن سبرها تماماً إذ يتعلق كل منها بالحالة الخاصة التي كابدها المنتحر قبل أن يقدم على "ذلك الفعل الفلسفي الأسمى" كما يصفه ألبير كامو ثمة في التاريخ الثقافي، ولا سيما خلال النصف الأول من القرن العشرين، حقب تتزايد فيها عمليات الانتحار وتتكثف بشكل لا يعود من الممكن معه الحديث عن دوافع محض فردية. ويمكننا أن نعطي مثلين على هذا؛ أولهما تكاثر انتحار الشعراء والفنانين الروس خلال السنوات العشر الأولى من انتصار الثورة البلشفية وبخاصة إثر مجيء جوزف ستالين إلى الحكم؛ والثاني يوم تحقق انتصار النازية في ألمانيا. في الحالين لا بد من القول إن الانتحار نتج من تفاقم الحكم الشمولي الستاليني من ناحية والهتلري من ناحية أخرى، بقدر ما نتج من الدوافع الشخصية التي لا يمكننا إنكار وجودها على أية حال.  
أنتوان ارتو كان يقول في وصف فان غوخ إذا ان المجتمع يدفع الاشخاص الذين لا يستطيع الافادة منهم، الى اليأس: "انه لشيء يعذب، يقبض قلب الرجل ويسحقه ككماشة. حتى يصبح مجنوناً ويلقي بنفسه في أحضان الموت كما في أحضان أم ما". لا يبتعد المجتمع كثيراً عن النظام الشمولي، الشكل الأكثر جذرية لعدم التأقلم هو الانتحار، إلا أن الأدب يمكنه أن يحل محل الانتحار: فـ"الأدب يشكل نوعاً من الكبرياء والتمرد تجاه الحياة، وثيقة احتجاج مفتوحة أبدا والكتاب لا يقتلون أنفسهم أكثر مما يفعل بقية العمال اللعينين. إلا أنهم يعلنون عن ذلك: فنصوصهم المطبوعة قبل وفاتهم تبريرات بعد وفاتهم. أو أن بأس ابطالهم بشكل بالنسبة لهم بديلاً فعالاً". أسف غوتيه لأن يكون بطله فرتر قد أصبح مثالا يتبعه الاخرون، والذين قتلوا انفسهم على غراره قد اساؤوا فعلا فهم الرواية. فلقد كان واجبهم ان يكتبوا، وهذا ما سيسمح لهم بأن لا يتجنبوا الفعل النهائي فحسب، بل ان يستمروا في العيش كأنهم دخلوا في مرحلة ما بعد الوفاة. و"اذا كان الانتحار محاولة للهروب من الموت، فإن الأدب تعبير الأديب هم البقاء فيما هو غائب، هو الخلود بعد الرحيل. اذ يقتل المرء نفسه ليثبت بقاءه". لذلك تقول المغازين ليترير علينا أن نعتني بالأبطال الرومنطيقيين الذين عهد المؤلف إليهم برغبة في الموت. بقدر ما نعتني بالمنتحرين الحقيقيين فشخصية "رولا" بالنسبة الى الفرد دو موسيه، وشاترتون بالنسبة الى فيني والغامض الجميل بالنسبة لجوليان غراك، فليس امواتهم بالأموات الذين يمكن أن ننسبهم لفعل الافكار السوداء، ولا للعنف المعارض، بل هم التساؤل الاقصى: من أنا يسأل العشيق العشيقة، والمؤلف القارئ، والحي الميت...



 
(*) صدر عن دار الرافدين في بيروت، ترجمة عيسى مخلوف
(**) ترجمته رنا ادريس في مجلة "الآداب" البيروتية (1988)
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها