الخميس 2021/07/01

آخر تحديث: 13:33 (بيروت)

اليوتوبيا بين إجابتين

الخميس 2021/07/01
اليوتوبيا بين إجابتين
توما بوشيه: اليوتوبيا ككلمة لا تحض سوى على ضرورة التخيل
increase حجم الخط decrease
ملفت هو كتاب توما بوشيه الذي يحمل عنوان "يوتوبيا"، ومرد ذلك، يتعلق بدايةً بنشره من قبل دار أناموزا في مجموعة جميلة للغاية، كانت قد أطلقتها بإسم "الكلمة ضعيفة". فتصدر الدار تحت هذا الاسم كتباً، يقارب أصحابها كلمات فيها بوصفها مفاهيم ومصطلحات. وهذا، تماماً كما يفعل بوشيه في كتابه، بحيث يتناول كلمة "يوتوبيا" من منظور محدد، وهو المنظور التأريخي. فيقدم بوشيه تاريخ هذه الكلمة، أو بالأحرى تواريخها، محاولاً ان يتسلسل في سرد حكاية دخولها في اللغة وتحولاتها فيها. في هذا السياق، يمكن إضافة سبب ثان لكون كتاب بوشيه ملفتاً، سبب يتعلق بطريقة شائعة لاستخدام "يوتوبيا". فمن المعلوم ان هذه الكلمة بمثابة كلمة مرذولة، فها هو شخص ما يصف مشروع أو فكرة أو بغية أو أي شيء باليوتوبي ليقول إنه مجرد وهم، أي لا مجال لتحققه. كما أن الشخص ذاته قد يعمد الى الارتكاز على الوصف نفسه بالانطلاق من كونه مجرد مرادف لـ"مثالي"، الذي يستقر معناه على كونه كل ما لا صلة له بالحقيقة الواقعية. في هذه الجهة بالتحديد، يمكن الاشارة إلى كون كتاب بوشيه ملفتاً أيضاً لأنه يحيل الى ابتعاد الاحتجاجات في العالم منذ عقدين أو ربما أكثر عن أي يوتوبيا، كما لو أنها ترذلها أيضاً، محاولةً ان تتبرأ منها، لتدور حول مطالبات بحق من هنا وحق من هناك، وخلال ذلك، تلتزم بما هو موجود هنا والآن.

لكن تحوير كلمة يوتوبيا لم يبدأ حديثاً. هذا ما يؤكد عليه بوشيه، حين يعود إلى القرن السادس عشر، وتحديداً، يوم أدخل رابليه تلك الكلمة إلى اللغة الفرنسية. إذ إنه، وما ان فعل ذلك، حتى بدأت الانقسامات حولها، وهذا، بالانطلاق من تركيبها، فما الذي أدى إلى وضع U بعد topie اي المكان مشتقاً من topia بحسب اللغة اليونانية القديمة؟ وماذا يعني هذا الحرف؟ كانت ثمة اجاباتان. الإجابة الأولى، أن حرف U يشير إلى أن المكان، التوبيا، لا محل له، بمعنى ألا وجود له. الإجابة الثانية، أن ذلك الحرف يعني EU، الذي يدل، وفي حضوره إلى جانب توبيا، ان المكان هو مكان جيد. على هذا النحو، حصل انقسام بين اجابتين متناقضتين نوعاً ما، فاليوتوبيا إما هي مكان لا يمكن أن ينوجد، أو أنها مكان موجود، لكن سمته الرئيسية ليست وجوده أو غيابه، إنما كونه مكاناً لا مُقاساة فيه.

هذا الانقسام حول الكلمة وتركيبها سيتواصل، لكنه سيأخذ شكلاً جديداً، وهو شكل سياسي، بحيث أن الإجابة الأولى صارت إجابة اليمين، والإجابة الثانية غدت إجابة اليسار. بالطبع، تحول الانقسام إلى هذا الشكل، ترك تبدلاً في مضمون الاجابتين أيضاً. فبالنسبة لليمين، اليوتوبيا هي عنوان التعسف والاستبداد. فها هو مثلاً قاموس الأكاديميا الفرنسية يعرف اليوتوبيا بالتوتاليتارية، كما أن كارل بوبر يقول ان البلدان الاشتراكية هي بلدان ديكتاتورية في نتيجة يوتوبيتها. واليمين نفسه، وفي حين تقديمه اليوتوبيا هكذا، يستند إليها كماركة للترويج في السوق، كأن تسمي شركة كبرى أحد منتجاتها يوتوبيا.

غير أن إجابة اليسار، مختلفة للغاية، بحيث أنها تقدم اليوتوبيا كمكان ثوري، تماماً كما يفعل شارل فورييه وديزيريه وموريس وسان سيمون وبلانكيه، وغيرهم. كل هؤلاء يقدمون اليوتوبيا كمكان للممارسات التحررية، أكانت تتعلق بتجارب اجتماعية أو بتجارب أدبية أيضاً. بهذا المعنى، كانت اليوتوبيا مشروعاً في حد ذاته، يقترن بالاشتراكية، قبل أن يستدعي مواجهته بالاشتراكية العلمية.

بين الاجابتين، بقيت اليوتوبيا محط تبنٍ ونقد وتمسك وتجنب. وهذا على الأغلب، مثلما يقول بوشيه، من ركائزها، كما أنه من سمات الكلمات الحية، بمعزل عن ضعفها أحياناً، أو قوتها أحياناً أخرى. فاليوتوبيا ككلمة لا تحض، في نهاية الأمر، سوى على ضرورة التخيل في أي طرح، في أي عمل، مشروع، أو صراع، بحيث أنه بمثابة محركه وعصبه. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها