الأربعاء 2021/06/09

آخر تحديث: 11:31 (بيروت)

ستالين في "جنازته".. قدّاس للسفّاح يتبعه قدّاس للضحايا

الأربعاء 2021/06/09
increase حجم الخط decrease
في 6 آذار/مارس 1953، وُضعت جثة جوزيف فيساريونوفيتش ستالين المحنّطة، ملفوفة في كفنٍ من الحرير الأحمر، وسط محيط من القرابين الزهرية في قاعة الأعمدة ببيت النقابات العمّالية (أو قصر الاتحادات)، وسط موسكو. منذ تلك اللحظة، أقيمت مراسم جنازة استمرت أربعة أيام حتى نُقل النعش إلى الضريح في الساحة الحمراء، ومذاعاً عبر الراديو في جميع أنحاء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية. غطّى ما يقرب من 200 مصوّر الحدث في جميع أنحاء الإقليم، من الحدود مع أوروبا إلى تخوم القارة الآسيوية.

اعتماداً على هذه المادة الأرشيفية الثمينة، والمُرمَّمة بالكامل ولم تُنشر من قبل على نطاق واسع (لا سيما اللقطات الملونة، التي أُنقذت من فيلم تمكّنت عمليات التطهير التي أعقبت موت ستالين من دفنه لعقود)؛ أنجز المخرج الأوكراني الكبير سيرغي لوزنيتسا تحفة تسجيلية بطلها المونتاج والإعداد الصوتي، وبالطبع جثّة نبي الشيوعية. "جنازة رسمية"، المعروض للمرة الأولى في نسخة مهرجان فينيسيا السينمائي لعام 2019، ينال حالياً عرضاً عالمياً على منصة "موبي" للسينما الفنية، مع أربعة عناوين أخرى للمخرج، بأسلوب مماثل، تشكّل مجموعة فريدة من الأعمال حول تاريخ الاتحاد السوفياتي السابق.


لوزنيتسا متخصص صميم في التعامل مع المواد الأرشيفية (رغم أن لديه أيضاً قمم أخرى في مجال التسجيل المباشر للسينما الوثائقية، مثل "ميدان"-2014، حول الاحتجاجات والاضطراب الأهلي في بلاده أواخر العام 2013). وفي "جنازة رسمية" يؤلّف سيمفونية سينمائية مهيبة - بموضوعاتها ومواضيعها المضادة وتنويعاتها - قادرة على تقديم وصف بليغ لعبادة شخصية ستالين دون اللجوء إلى أي مصدر آخر غير التسجيلات المرئية والصوتية لذلك الوقت. هنا، لا مقابلات أمام الكاميرا أو رواة صوتيين، على غرار الوثائقيات التلفزيونية، إنما فقط تلك التسجيلات المنتزعة من ظلام خزائن البالوعة السوفياتية حيث حُبست، والتي، بفضل براعة لوزنيتسا ومحرّره الليتواني دانييليوس كوكاناوسكيس، تحدّثت مرة أخرى ببلاغة مدهشة عن لحظة مهمة في تاريخ القرن العشرين.

تتميز أفلام لوزنيتسا الوثائقية - أو على الأقل معظمها - بخصوصية تمنحها فتنة غامضة. غالباً ما يجري تشييدها وتجميعها من مواد أرشيفية أو من تسجيلات مراقبة بحتة. والمخرج لا يقود المتفرج أبداً إلى اتخاذ موقف مباشر بشأن ما يراه. مثلاً، في فيلمه الوثائقي "أوسترليتز" (2016)، الذي يُظهر سائحين أثناء زيارتهم معسكر اعتقال نازي والتجول في أرجائه، يمكن للمتفرج الافتراض أن ما يراه بمثابة نقد لـ"تفاهة الخير"، في ضوء ما يوضّحه الفيلم بشيء من اللوم عن كيف أصبحت هذه الأماكن التاريخية المأساوية فضاءات مألوفة لنشاطات "انستغرام" وثقافة جيل يبحث عن لفت الانتباه ولا شيء سواه. لكن بالإمكان أيضاً رؤية الفيلم من دون تلك التوابل، كعرض للمكان والأشخاص المترددين عليه.

حتى نهاية "جنازة رسمية"، حين تظهر تلك التوضيحات التي تشير بشكل أوضح إلى موقف الفيلم في ما يعرضه؛ يمكن للمرء الشعور بشيء مماثل. فالفيلم المنجز بالكامل من الأرشيف السوفياتي الرسمي، وعبر عرضه الأحداث الجماعية وردود الأفعال المختلفة التي أعقبت الإعلان عن وفاة المرشد الأعلى للاتحاد السوفياتي.. لا يحتوى علامة واحدة على عدم احترام هذا الديكتاتور أو ذلك السفّاح ممن نراهم على الشاشة، حتى لو داخل المتفرج نفسه شعور بأن تلك المبالغة الجنائزية والتأليه الروتيني والخطب العصماء هي في حد ذاتها، أفعال تحمل دلالات الديكتاتورية الراسخة. لكن يمكن للمرء أيضاً تخيُّل بعض الحنين إلى الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت، قد تثيره تلك المشاهد المؤثرة، والشعور بألم "الناس العاديين" الذين يبدو عليهم حزن شديد لما حدث. التوضيحات النصّية في الختام، والتي تروي بإيجاز مكثّف بعض أحداث الستالينية وما بعدها، يحتاجها لوزنيتسا لتأكيد ما يشعر به الكثير منّا (بغض النظر عن أولئك الستالينيين المعاصرين وأشباههم من الأسديين الذين يعيشون بيننا وحولنا ولا تفرق معهم حياة وأعمار ومصائر آلاف البشر).

منهج لوزنيتسا بسيط ومعقد في آن. من ناحية، يشرع في تنقية مواده، فمن بين من 35 ساعة من اللقطات الأرشيفية المصوّرة المتاحة تحت يده، يبدو أنه لم يترك سوى العناصر الأساسية والعظام العارية للأحداث، من الوصول المختلس لتابوت الزعيم السوفياتي إلى بهو الأعمدة، إلى معرض النحيب والتحايا، المشهود والفخم، مروراً بالجنازة العسكرية وإراحة ستالين بجوار لينين، على الجانب الآخر من جدار الكرملين، حيث حكم لمدة 30 عاماً تقريباً. من تلك النواة الصلبة، التي تحدّد الزمان والمكان، يعمل لوزنيتسا من طريق التراكم، ما يمنح الفيلم تصاعداً مثيراً للإعجاب حتى يصل إلى ذروة استثنائية.

ثمة فكرة مهيمنة في الفيلم، تظهر خافتة لكن بتكرار مُلحٍّ، سواء في قرية نائية أو على الدرج المؤدي إلى جثامين الخالدين في موسكو: النظر إلى الكاميرا. نظرات هاربة، كأن أصحابها فوجئوا بالتصوير، أو نظرٌ حذر بزاوية العين. تنجذب النظرات إلى الكاميرا كأنها مغناطيس. سبب ذلك ربما عائد إلى الإدراك المفاجئ لعيش حدث تاريخي، أو إلى خوفٍ من تسجيل الحضور بإيماءة خاطئة أثناء المراسم، أو ببساطة إلى رهبة مستقبل ضبابي بعد الفراغ الذي خلّفه موت زعيمٍ، له ما له (الانتصار على الجيش النازي الغازي) وعليه ما عليه (التطهير السياسي والطبقي الوحشي)، حكم البلاد بقبضة من حديد.

بالنسبة إلى ستالين نفسه، لا نرى سوى لقطة مقرّبة لوجهه في التابوت حيث ينام مرتديه زيه العسكري، وقد حلّي صدره بجميع الأوسمة التي أُنعم بها عليه، ولقطات مقرّبة ليديه ولقطة علوية رائعة للتابوت. هذا قبل نزول عنوان الفيلم في البداية. لكن من الآن فصاعداً، سيضيف لوزنيتسا صوراً لآلاف الأجساد والوجوه لرجال ونساء وأطفال صُدموا من الحدث الصاعق، لا يتوقفون عن البكاء والاصطفاف لتحية زعيمهم الراحل: يعبرون لفترة وجيزة أمام التابوت، ينظرون مصعوقين إلى جثته، يودعون باقات أزهار لانهائية أسفل النصب التذكاري المخصص لـ"والد الشعوب"، يشترون الصحيفة الرسمية للحزب الشيوعي للحصول على مع وصف مفصّل لأسباب وفاته، يستمعون أمام مكبرات الصوت إلى الأخبار المنتشرة من العاصمة، يتناوبون أمام ميكروفونات المصانع على ارتجال خطابات مديح ووداع.

رهبة وغرابة، خوف ورجاء، انسحاق وفخر.. مشاعر متضاربة تليق تماماً بشخصية الفقيد "صقر السلام، الحكيم، الذي لا يُقهر". فهذا الرجل، جورجي الأصل، استطاع تحويل الاتحاد السوفياتي قوةً دولية عُظمى بأكلاف بشرية ومادية باهظة، واستحوذ بهرطقاته الستالينية على أمانة الحزب الشيوعي وإرث لينين، وأطاح الرفاق قبل الأعداء بأساليب شتي، لكنها كلها وحشية. رغم ذلك، ففي كل الأحوال، مفارقة الفيلم لافتة وحاضرة، على امتداد طوله وبعد نهايته.

من ناحية، هو قادر على تقديم وصف كامل للعاطفة الجماعية لشعب متعدد الأعراق في لحظة حرجة، وغمر المتفرج المعاصر في ذلك المناخ التاريخي. ومن ناحية أخرى، بوجود توضيحين نصّيين فقط في نهاية الفيلم، يشيران بإيجاز شديد إلى الجرائم الهائلة التي ارتكبها ستالين، يقوم لوزنيتسا بمحو التعويذة الأصلية وعِلّتها التخليدية (لا ننسى أن تلك اللقطات كلها هي في الأصل مشروع فيلم وثائقي رسمي لتخليد ستالين) وهدم النصب التذكاري الذي أقامه هو نفسه خلال الدقائق الـ130 الماضية. يبدو الأمر مثل قُدّاس للسفّاح يتبعه قدّاس آخر طويل ومفتوح لضحاياه.

(*) يُعرض حالياً في منصة "موبي".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها