في النّهاية، يتبارزُ شطرا ميدارْ، وتكون باميلا هي السّبب المباشِر في ذلك، فيصابُ كلّ منهما بجرح مديد يفتح أطرافَ العروق في جانبِ الجسد الذي اقتُطِع منه النصفُ النّاقص، وينبجسُ الدّم من أطراف العروق، ويتدخَّلُ الطبيب ترِيلُونِي، الذي يكون القارئ قدْ تعرّف عليه منذ الصفحات الأولى من الرّواية، فيشُدّ النّصفين إلى بعضهما ويجعلهما يلتحمان، فلا يَعودُ هناك إلاّ ميدار واحد، سرعان ما سيتماثَل للشّفاء، ويتزوّج من باميلا...
إنّ كالفينو لا يكتب، أبداً، "الرّواية ذات الأطروحة"، ومع هذا، فنحن نلاحظ أنّ "الفيسكونت المشطور" تجعلنا ندرك، بشكل تلقائيّ، وعبر سَفَرٍ مُدهِش في عالَم مُتَخيّل مُتفرّد، أنّ "الفضيلة المطلقة أو الشّرّ المطلق لَيسا مِمّا يُمكن أن يَتّسم به الكائن البشري"، كما أثبتَ ذلك ناشرُ الصّيغة الفرنسية للرّواية، في صفحة الغلاف الأخيرة... وما يهمنا أن نشير إليه هنا، بالأساس، هو أننا إذا تقبلنا المنطلق العجائبي للرواية - وهو أن بإمكان نصف شَخص أن يعيش ويمارس حياته - فإنّ ما سيترتّب عن هذا المنطلق من أحداث لاحقة سيبدو لنا منطقياً وواقعياً أيضاً.
مثال ثانٍ عن فكرة رولان بارتْ المذكورة، في قصص كتاب "كوسميوكوميكس أو كونيات هزلية" لكالفينو: في مُستهَلّ كُل من قصص هذا الكتاب، الذي يُشَكّل في مجموعه رواية عجائبية، نجدُ فقرةً معزولة في أعلى النّصّ - مكتوبةً بحروف مائلة، وهي ذاتُ طابعٍ نظريّ ومرجعيّة علميّة، تتعلّق بطريقة ما ببدايات الكون وبداية الحياة البشريّة - يفْصِلها بياض عن النّصّ القصصيّ البحت، أي النص الذي تظهر في ثناياه الشّخصِيّات وتجري الوقائع، فكأنّما هنالك صوتاً من خارج القصّة الفِعليّة يَقوم بإلقاء تلك الفقرة التّمهيديّة. والذي يتولّى عملِيّةَ السّرد، في ما أسْميناه النّصّ القصصيّ البحت، هو ذلك الشّخص المُثير، الذي وُجِد منذُ بدايات تشكّل الكون وعاصَر ذلك التّشكّل، ألا وهو الشّيخ المُسنّ– وكيف لا يكون كذلك؟ – وهو ذو الاسْم العجيب، الذي نجد أنّ أقرب طريقة لكتابته بالعربيّة هي التّالية: (ك ف و ك ف)! في كلّ من تلك القصص يبدأ الشّيخُ في الكلام بتأكيد أنّ ما وَرد في فقرةِ الاستهلال، ذاتِ الطّابع العِلْمي، صحيح، بناءً على تجربة شخصيّة عاشَها في ماضٍ سحيق، وبعدها يُباشِرُ سَرْدَ ذكرياته عن التّجربة المذكورة.
فإذا تقبلنا فكرة كون ذلك الشيخ العجيب قد عاصر بدايات تشكّل الكون، فكلّ ما سيحدُث في القصة، على إثر ذلك، سيبدو لنا مقبولاً على ضوء المعطيات العلمية الواردة في أعلى القصّة. ففي القصّة الأولى من المجموعة، وعنوانُها "المسافة إلى القمر"، يتمّ الابتداء بفقرة قصيرة، حيثُ تُعرَض فكرة عِلْمِيّة مفادُها أنّ القمر، في ماضٍ سحيق، كان قريباً من الأرض. يلي تلك الفقرة القصيرة بياضٌ، وبعده، نجِدُ الشيخ المُسِنّ يُعَلّقُ على مُحتوى الفقرة المذكورة، بقوله: «أعرفُ هذا جيّداً! لا تستطيعون، أنتم، أنْ تَذكروا ذلك، أمّا أنا فأستطيع. لقدْ كان فوق ظهورنا باستمرار، أعني القمر... وكانتْ ثمّة ليال يكون فيها القمرُ بدراً، ونازِلاً كثيراً، ويكون فيها مدّ، والموج خلالها يرتفع إلى علوّ قَصِيّ، حدَّ أنَّ القمر كان يبدو على وشك أن يَنغمسَ في مياه البحر، أو فَلْنقلْ إنّ بِضْعة أمْتار فحسب هي التي كانَت تَفصلهُ عن البحر. ألمْ نُحاول قَطُّ أنْ نصعد إلى ظهره؟ كيف لا! كان يكفي المُضيّ، في قارِب، حتّى نَصير تحت القمر، وبعدها نُسند إليهِ سُلّما ونَصعد"(1) - هكذا يبدأ الشيخ في سرْد قِصّة طويلة، تتبدّى لنا في ثناياها شخصِيّاتٌ ذاتُ أسماء مثيرة، وتروي لنا عن علاقات ووقائع، وعنْ عواطفَ مشبوبة وحبٍّ يائس...
- خاصّية أخرى يرى بارت أنّها ساحرة حقّاً لدى كالفينو، وتتجلّى في اشتغاله المتفرّد على عملية القَصّ. ابتغاء تقريب فكرة بارتْ إلى الأذهان، نتوقّف عند الطريقة التي كتب بها كالفينو روايته "لو أنّ مسافراً في ليلة شتاء". في الفصل الأوّل، نعاين شخصية الرواية الأساسيّة، التي تُنعتُ بـ"القارئ"، لدى شروعها في قراءة "لو أنّ مسافراً في ليلة شتاء". لكنّ هذا القارئ، بعد أن يستمر في قراءته تلك لِوقت ويُنهي الفصل الأوّل، سيكتشف أنّ هنالك خطأ طرأ أثناء تجميع مَلزمات الكتاب، يجعل بقيته تكراراً مستمرّاً لفصله الأول. ولذا سيعود إلى المكتبة لتبديل نسخة الكتاب تلك بأخرى جيدة، وهناك سيلتقي بفتاة جاءت للسّبب نفسه، واسْمُها لودميلا، وسيتضح لهما معاً أن الكتاب الذي كانا قد شرعا في قراءته ليس هو رواية كالفينو المذكورة، وإنما رواية أخرى، كاتبها بولندي وعنوانها "خارج بلدة مالبورك"، وقد أصبحا يُفضلان اقتناء هذه الرواية الأخيرة عِوَض سابقتها! بعد ذلك، ونتيجة خطأ جديد في هذه الرواية أيضاً، من صنف السّابق، يمضي القارئ - وقد أضحى على علاقة بالقارئة لودميلا- مُجدّداً إلى المكتبة لتغيير الكتاب... ثم يتكرر الخطأ نفسه، ويتوالى تبديل الكتب، والنتيجة هي رحلة بديعة نخوض خلالها غمار قراءة فصول أولى من روايات عديدة ومن مختلف الأصناف، والروايات لا تكتمل، لكن فصولها المتاحة شيّقة وعوالمها على جانب كبير من التّنوّع، ويبقى لكلّ منّا، إن شاء، أن يتخيل لها إضافات ونهايات ممكنة. على أيّ حال، فنحن سنعلم، في نهاية الرواية أنّ القارئ قد تزوّج من القارئة!
في بداية "لو أنّ مسافراً في ليلة شتاء"، يتوجه السّارد إلى القارئ، الذي هو الشخصية الأساسيّة في الرواية، قائلاً: "ستبدأ في قراءة رواية إيتالو كالفينو الجديدة، لو أنّ مسافِراً في ليلة شتاء. اِسْترخِ. رَكّز. لا تحفَل بأيّ فكرة أخرى. دع العالَم الذي من حولك يتبخّر في السّديم. الباب، من الأحسن إغلاقه. في الجهة الأخرى، لا يزال التلفاز مشتعلاً. قل للآخرين على الفور: لا، لا أريد مشاهدة التلفاز. تكلَّمْ بصوت جهوريّ أكثر إن لم يسمعوك: أنا أقرأ. لا أريد أن يزعجني أحد... أو إن شئتَ، لا تقلْ شيئاً، ولنتمنَّ أنهم سيتركونك في سلام!"
(*) ترجمة كل المقتبسات من كالفينو وغيره هي لكاتب هذه المقالة (عن النّصوص الفرنسيّة).
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها