الأحد 2021/06/06

آخر تحديث: 08:10 (بيروت)

الكنائس والجنس والأسئلة المعلّقة

الأحد 2021/06/06
الكنائس والجنس والأسئلة المعلّقة
احوال
increase حجم الخط decrease
استلّ الرجل الذي لم يحتفل بعد بعيد ميلاده السبعين قلماً متواضعاً. كتب رسالة استقالته من الأسقفيّة، وبعث بها إلى رأس الكنيسة الكاثوليكيّة ذي العينين اللامعتين والثوب الأبيض بلون الحمائم. قال إنّ الكنيسة التي يحبّ وصلت إلى نقطة «مائتة»، وإنّه يتمنّى أن تكون هذه الاستقالة منطلقاً لمرحلة جديدة. أمّا الحبر الرومانيّ الذي يختزن في جبّته ألفي سنة من تاريخ المسيحيّة على ضفاف التيبر ويرأس الكنيسة «المتقدّمة في المحبّة»، كما كتب عنها في القرن الثاني أسقف أنطاكيّ يدعى إغناطيوس، فاستمهل المطران المستقيل، وطلب منه أن يواصل القيام بمهامه الأسقفيّة ريثما يتّخذ قراره بقبول الاستقالة أو رفضها.

ما الذي دفع الكاردينال راينهارد ماركس، مطران أبرشيّة ميونيخ وفرازينغ ورئيس مجمع الأساقفة الكاثوليك في ألمانيا بين العامين 2014 و2020، إلى تقديم استقالته؟ هو يكتب في رسالته، بكثير من الجرأة والشفافيّة، أنّه يريد أن يتحمّل مسؤوليّة ما ارتكبته الكنيسة الكاثوليكيّة من أخطاء على مدى عقود في مسألة التحرّش الجنسيّ بالقاصرين والقاصرات. لا يتحمّل المسؤوليّة وحده، ولكنّه يتحمّلها مع آخرين. والاستقالة استخلاص للعبر وتحرّك في الاتّجاه المناسب.

من النافل القول إنّ كلام الكاردينال يذهب أبعد ممّا سمعناه حتّى اليوم في الأوساط الكنسيّة الرسميّة في ما يخصّ فضائح التحرّش الجنسيّ. فالأسقف ماركس يوضح، في رسالته، أنّ المسألة ليست مجرّد أخطاء ارتُكبت بحقّ بشر مستضعفين، ولا تقتصر على مطالبة الكنيسة بالاعتراف بهذه الأخطاء والانخراط في مغامرة عدالة ترميميّة حيال الضحايا، ما أمكن الترميم. هي كذلك بالتأكيد، ولكنّها ليس كذلك فحسب. وهذا هو بيت القصيد. وهذه هي حجّة الكاردينال الأساسيّة التي أفضت به إلى اتّخاذ قراره. فالقضيّة ليست قضيّة إدارة كنسيّة يمكن تحسينها. ثمّة في الكنيسة، يكتب الكاردينال، مشكلة بنيويّة ذات طابع لاهوتيّ. وشعوره هو أنّ كنيسته مستعدّة لتحسين أدائها الإداريّ، ولكنّها تتلكّأ في مساءلة المشكلة البنيويّة اللاهوتيّة الطابع. لذا، قرّر الاستقالة على أمل أن تتحرّك المياه الراكدة. هذا كلّه يمكن قراءته في النصّ الذي رفعه المطران المستقيل إلى أسقف روما.

نحن، إذاً، أمام موقف يضع الإصبع على الجرح، لأنّه يعتبر أنّ جوهر القضيّة لا يكمن فقط في الاعتراف بأخطاء الماضي ومواكبة ضحايا التحرّش والتعويض عليهم قدر الإمكان، بل يكمن أوّلاً في التربية الكهنوتيّة وفي موقف الكنيسة من الجنس عموماً، كتقديس البتوليّة حتّى الإفراط والتهاون مع المثليّة المقنّعة باسم حماية المُؤَسّسة وتهميش النساء وإقصائهنّ عن مواقع القيادة الكنسيّة. هذا ما أومأ إليه الكاردينال حين كتب أنّ المسألة بنيويّة وذات أبعاد لاهوتيّة. ولكنّ ما لم يقله هو أنّ هذه المسألة البنيويّة لا تنحصر في الكنيسة الكاثوليكيّة، بل تطال الكنائس كافّةً وإن بنسب مختلفة. فقد آن الأوان أن تعيد الكنائس النظر جذريّاً في مقاربتها للجنس، وفي فهمها لطبيعة الكهنوت والأسقفيّة من حيث علاقتهما بالجنس. كما آن الأوان أن تنكبّ الكنائس على مساءلة جذريّة لما درجت على تسميته «المواكبة الروحيّة»، لا من زاوية ما يمكن أن تتعرّض له هذه من انحراف يغلب عليه طابع استغلال السلطة فحسب، بل أيضاً من حيث إنّ هذه المواكبة معرّضة للتحوّل إلى أداة للتنفيس عن احتقانات سيكولوجيّة مريضة تتأصّل في قيعان الذات البشريّة.

هناك درسان على جانب كبير من الأهمّيّة يمكن استخلاصهما من رسالة الكاردينال ماركس. أوّلاً: قضيّة الجنس ماضية في تفجير الكنائس من الداخل. وهذا لا يعالج بالصمت والتجاهل والترقيع، بل يحتاج إلى صراحة وتغيّر في النموذج ومساءلة بنيويّة ولاهوتيّة. لقد قالها الكاردينال المتواضع بصراحة، وهذا هو موضع الجدّة في خطابه. وثانياً: الكنائس غير قادرة على معالجة مسألة الجنس بمفردها، بل تحتاج إلى خبرة الطبّ النفسيّ وعلوم الإنسان، ولا سيّما علمي النفس والاجتماع. من شأن الاستعانة بهذه العلوم كلّها أن تعطي أجوبةً عن أسئلة لا يقدر اللاهوت على أن يجيب عنها. ومن شأنها أن تفكّك البنى التي راكمتها الكنائس عبر العصور، وغلّفتها بمنظومات لاهوتيّة تبدو اليوم بائدةً ولا وظيفة لها سوى حماية مؤسّسة كنسيّة يثقبها الخوف وينخرها التعفّن في غير موضع.

لقد قال الأسقف الألمانيّ الأمور بهدوء وصراحة. فهل من يصغي في الكنائس قبل فوات الأوان، وقبل أن نصل إلى زمن لا تعود فيه حتّى استقالات البابوات والمطارنة تجدي نفعاً؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها